هكذا يضيعون فلسطين.. بالمختصر المفيد!

الكثير من الغضب أثاره قرار ترامب الأخير حول القدس. ويبقى أن يُترجم الشجب والإدانات إلى سياسات وإجراءات مضادة ذات معنى، على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي. لكن هناك زاوية أخرى يمكن النظر منها إلى خطوة ترامب، والتي ربما تستوجب له الامتنان -إذا تبقت أي بصيرة لدى المعنيين ليروا منها.اضافة اعلان
معظم المعلقين لاموا ترامب على جملة أمور: أن قراره الخاص بالقدس يتعارض مع القرارات الدولية، ويستفز مشاعر العرب والمسلمين، ويهدي المتطرفين –وإيران- وسيلة للتجنيد، ويخرب ما تدعى "عملية السلام". ولامه آخرون على تسبب خطوته بإحراج أنظمة عربية. والآن، ربما لا تستطيع هذه الأنظمة مواصلة تجاهل القضية الفلسطينية والموقف الأميركي العدائي، وقد وصل الأمر إلى القدس.
في الحقيقة، تسبب قرار ترامب في إعادة القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء، عربياً ودولياً. لكنه إذا استطاع اجتياز الأزمة التي أثارها بحد أدنى من الأضرار، بمعنى اقتصار ردة الفعل على غضب مؤقت لا يلبث أن يبرد، فإنه يكون قد وجه ضربة قوية إلى كل قضية عربية. فإذا تبرع بالقدس نفسها للصهاينة ولم يُواجَه بشيء كبير، فلن يبقى بعد ذلك شيء عصي على المساس، وأوله إنهاء أي مطالبات عربية وفلسطينية بفلسطين. كما أنه سيكون قد أعطى لأتباعه في المنطقة فرصة التخلص من آخر تردد ربما يكون قد تبقى في الاندفاع نحو التحالف الفاوستي مع الشيطان الصهيوني على حساب الفلسطينيين والمصلحة القومية العربية.
لا موجب للقلق من ناحية إنهاء المطالبات بالحق الفلسطيني في فلسطين، ما دام هناك فلسطيني واحد على قيد الحياة. لكن المقلق هو إطالة أمد عذابات الفلسطينيين وغربتهم –ما لم يلاحظوا الوجه الآخر لخطوة ترامب، والتي عبر عنها بإيجاز بليغ باحث مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أنتوني كودسمان، في مقال قصير لخص كل الحكاية، بعنوان: "العواقب الاستراتيجية لجعل القدس عاصمة لإسرائيل".
حسب كودسمان، ستخلف خطوة ترامب تداعيات استراتيجية خطيرة على "إسرائيل"، لأنها "استفزت العالم العربي" بلا داعٍ. ويرى أن ترامب كان يجب –إذا أراد مساعدة "إسرائيل"- أن لا يفي بوعده بخصوص القدس، وأن لا يفعل أي شيء، ببساطة. والسبب: أن الأمور كانت سائرة، منذ 1967، لمصلحة "إسرائيل"، لأنها استخدمت كل هذه السنين في خلق "حقائق على الأرض" ببطء وتصميم، في القدس والضفة. وقد "أصبحت القدس بثبات أكثر يهودية باطراد، وتوسعت المناطق اليهودية في القدس الكبرى باتجاه الشرق... إلى حافة المنحدرات المطلة على وادي الأردن". و"هذه المراكمة التدريجية للحقائق على الأرض قلصت –في العالم الحقيقي- فرص العودة إلى خطوط العام 1967، ومعها آفاق التوصل إلى تسوية سلمية قابلة للحياة على أساس حل الدولتين".
ويضيف كودسمان: "في الوقت نفسه، قادت الانقسامات العميقة داخل العالم العربي، والافتقار إلى الوحدة الفلسطينية والقيادة الفسطينية الفعالة، والمخاوف التي تكونت لدى الدول العربية الرئيسية... من إيران، قادت إلى أن تصبح الاعتراضات العربية أكثر خفوتاً باطراد وأقل فعالية، كما جعلت جهود السلام الخارجية عاجزة إلى حد كبير عن الحد من توسيع مناطق السيطرة الإسرائيلية. وكان من شأن عدم القيام بشيء (من طرف ترامب) أن يسمح لهذا التوسيع للحقائق على الأرض بأن يستمر بلا نهاية. وكانت القدس الكبرى ستتمكن من الاستمرار في النمو مع الحد الأدنى من الاعتراضات العربية –الضئيلة والمحدودة أصلاً إلى حد كبير".
ما من وصف أدق من هذا لحكاية تضييع فلسطين. وستكون خطوة ترامب قد ألحقت ضرراً استراتيجياً بالكيان، إذا –وفقط إذا- استفاق قادة الفلسطينيين على الحقيقة البسيطة التي وصفها كودسمان، وخجلوا من طول ركضهم الأعمى عن مسار التساقط الموصوف.
جزء من وصفة الفشل ذكره كودسمان: "الوحدة الفلسطينية والقيادة الفعالة" الغائبتان؛ وإذا عقِل القادة الفلسطينيون منطق كودسمان المدهش، فعليهم أن يلطموا خدودهم طويلاً لما فعلوه بشعبهم وقضيتهم بما أتاحوه للعدو من فرصة خلق "الحقائق على الأرض" بغطاء "عملية السلام" وفخ أوسلو؛ وأن يفسحوا المجال لآخرين أكثر ذكاء وإخلاصاً، ويتيحوا لشعبهم فرصة التدارك بما ينفع الناس: المقاومة.