هل الصين ناضجة لقيام ثورة؟

اشتباكات بين محتجين صينيين وقوات من الجيش - (أرشيفية)
اشتباكات بين محتجين صينيين وقوات من الجيش - (أرشيفية)

ستيفن أر. بلات  (النيويورك تايمز) 9/2/2012
 ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
قبل 100 عام خلت تقريباً، يوم 12 شباط (فبراير) من العام 1912، تخلى الإمبراطور الطفل البالغ من العمر ستة أعوام من سلالة تشينغ الحاكمة عن العرش، منهياً بذلك أكثر من 2000 عام من الحكم الإمبراطوري في الصين. لكنه لن يجري الاحتفال بهذه اللحظة الفاصلة بالنسبة للصين الحديثة على نطاق واسع في الجمهورية الشعبية. فالمناخ السياسي في بكين متوتر، فيما يعد الحزب الشيوعي الحاكم العدة لانتقال سري إلى الجيل التالي من القادة، حيث يتوقع أن يصبح نائب الرئيس غير المجرب، تشي جينبينغ، رئيساً للبلاد. ولا تحظى بالترحيب المناسبات التي تعيد إلى الذاكرة التغييرات القديمة في النظام، ونهاية حقبة السلالات الحاكمة.اضافة اعلان
من الطبيعي أن يكون لدى الحكومة الراهنة القليل من الخوف من مثال العام 1912. فسلالة تشينغ التي كانت قد أسسها في العام 1644 رجال قبائل مانشو الذين غزوا الصين من الشمال، أطاحت بها حركة منظمة بشكل كبير، وحصلت على أسلحة وتمويل من وراء البحار، فضلاً عن أيديولوجية حكم متماسكة استندت إلى نزعة القومية الجمهورية. ولا يواجه الحزب الشيوعي اليوم شيئاً من ذلك القبيل.
 لكن الذي يواجهه بالفعل يتمثل في جزئه الضخم في قلاقل ريفية بدائية وحديثة العهد. ذلك أن الجانب المظلم من الصعود الاقتصادي للصين ما يزال يشكل توسيعاً مدهشاً للفجوة بين الساحل المزدهر وبين الداخل الذي يعاني من الفقر، ومن ازدهار الفساد بين صفوف المسؤولين المحليين، ومن مشاعر استياء وغضب عارمين، وفق ما نستطيع جمعه من بيانات. وتعترف الحكومة بوقوع عشرات الآلاف من "الحوادث الجماعية" التي يمكن أن تتفاوت في أي مكان من نحو قبضة من الأرامل الكبيرات في السن المحتجات على قضم ناجم عن الفساد للعقارات لصالح تجمعات (مثل القرية الجنوبية، ووكان)، إلى أعمال شغب عرقية، كما حدث في الأعوام القليلة الماضية في صفوف التبتيين، وفي مقاطعة شينيانغ الغربية، وفي منغوليا الداخلية.
وبذلك المفهوم، ربما تشكل هذه التحركات بديلاً لثورة "تايبينغ" التي كادت أن تسقط سلالة تشينغ قبل 50 عاماً، وهي تقوم بتوجيه أقوى التحذيرات للحكومة الراهنة. وتنطوي الثورة التي تكلفت 20 مليون قتيل على الأقل قبل إخمادها، ما جعلها أكثر حرب أهلية مدماة في التاريخ، على توجيه تحذير لأولئك الذين يأملون في اندلاع انتفاضة شعبية -ربيع صيني- اليوم.
كانت ثورة تايبينغ قد تفجرت من جنوبي الصين خلال وقت مبكر من سنوات الخمسينيات من القرن التاسع عشر، في فترة تميزت، كما هو الحال الآن، بالتخلخل الاقتصادي والفساد والفراغ الأخلاقي. واستشرى، في الغضون، الفقر الريفي: كان المسؤولون المحليون فاسدين على نطاق واسع؛ وكانت حكومة بكين نائية جداً بحيث بدت بالكاد وأنها قيد الوجود. وقد انطفأت جذوة الانتفاضة بسبب نزاعات إثنية دموية بين الصينيين المتحدثين بالكانتونية والأقلية من الهاكا بسبب حقوق الأراضي. وانضم العديد من الهاكا إلى تيار ديني متنام بني حول شخص رؤيوي سمي هونغ تشيوكان، والذي اعتقد بأنه الأخ الأصغر لعيسى المسيح. وعندما تولى مسؤولو تشينغ المحليون المسؤولية، مالوا إلى جانب المزارعين الصينيين واستفزوا الهاكا -وطائفتهم الدينية- لحمل الأسلحة والانقلاب ضد الحكومة.
الأمر الذي كان لافتاً للنظر، ومزعجاً جداً في الوقت نفسه فيما يتعلق بثورة التايبينغ، هو أنها انتشرت بسلاسة وعفوية؛ إذ لم تعتمد على خلفية السنوات "الثوروية" الأولية (كما فعلت الثورة التي أسقطت الملكية في العام 1912 أو ثورة العام 1949 التي جلبت الشيوعيين إلى السلطة).
وبينما شكل الأتباع الدينيون لهونغ محورها، وعندما كسرت الطائفة طوقها الإمبريالي وسارت نحو الشمال، فقد اجتاحت مئات الآلاف من الفلاحين الآخرين في طريقها -أعداداً مضاعفة ممن كانت لديهم حالاتهم الخاصة من التعاسة والآلام المنفصلة، ولم يروا شيئا ليخسروه في الانضمام إلى الثورة. وقد انضم آلاف عمال المناجم العاطلون عن العمل، شأنهم شأن المزارعين الفقراء والعصابات الإجرامية وكل الساخطين، إلى الجيش الضخم الذي بلغ تعداد أفراده مع حلول العام 1853 نصف مليون مجند ومتطوع. وفي ذلك العام، احتل التايبينغ مدينة نانيانغ وذبحوا سكانها من المانتشو عن بكرة أبيهم، وأعلنوا المدينة عاصمتهم وقاعدتهم لمدة 11 عاماً حتى انتهاء الحرب الأهلية.
وجرى تعليم أولاد المدارس في الصين في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين أن التايبينغ كانوا أسلاف الحزب الشيوعي، وأن هونغ هو السلف الروحي لماو (تسي تونغ). وقد سقط ذاك التأويل الآن على جانب الطريق، لأن حكومة الصين لم تعد ثورية وفق أي مفهوم.
وعليه، من المعقول أنه يتم في الأعوام الأخيرة تصوير التايبينغ غالباً بشكل سلبي، باعتبار أنهم معتنقون للخرافات والعنف الطائفي والذين شكلوا تهديدا للنظام الاجتماعي. وكان الجنرال الصيني الذي قمعهم، زينغ غوافان، قد صنف على أنه خائن لعرقه بسبب دعمه المانشوس، لكنه برئ الآن، وأصبح يعد اليوم ضمن الشخصيات التاريخية الأكثر شعبية في الصين، ونموذجاً للولاء والانضباط الكونفوشيوسي. وعلى نحو ملائم للدولة، فإن إسهامه الرئيس في تاريخ الصين كان السحق غير الرحيم للسخط العنيف.
لقد تعلمت بكين دروسها من الماضي. ونرى هذا في القمع السريع وغير الرحيم لفالون غونغ والطوائف الدينية الأخرى التي تشبه التايبينغ قبل أن تجيش نفسها. ونستطيع رؤية ذلك في أعداد اليوم من "الحوادث الجماهيرية". وفي الحقيقة، يبدو أحد التقديرات، 180.000 في العام 2010 بمثابة النذير، لكن نفس الرقم يظهر أن السخط ليس منظماً، وأنه لم يتحول إلى شيء يمكن أن ينطوي على تهديد الدولة. ومن الممكن أن يواجه الحزب الشيوعي الصيني بعشرات وحتى مئات الآلاف من الحوادث الضيقة النطاق المنفصلة، بدلاً من تمرد واحد موحد مجمع للزخم. ولا يكمن الخوف الأكبر بالنسبة للحكومة في وجود سخط عنيف، وإنما في احتمال تحول تعبيرات مثل هذا السخط.
وتنطوي تلك الثورة على دروس للغرب أيضاً. فقد كان حكام الصين في القرن التاسع عشر، كما هم راهناً، مكروهين بشكل عام في الخارج. وكان ينظر إلى المانشوس على أنهم متغطرسون ومستبدون فاسدون، منعوا وصدوا التجارة وكرهوا الأجانب. وكانت كل الرومانسية تصب في صالح الثوار التايبينغ الذين نظر إليهم الخارج في البداية كمحررين للشعب الصيني. وكما وصفت إحدى البعثات التبشيرية الأميركية في شنغهاي الحالة في ذلك الوقت، فإن "الأميركيين مشدودون بقوة إلى المبادئ التي تأسست عليها حكومتهم، وازدهرت على رفض التعاطف مع شعب بطولي يقاتل ضد العبودية الأجنبية".
فيما كان السيد زي يستعد لزيارة الولايات المتحدة هذا الشهر، تشكل لدينا شعورا مشابها إزاء القلاقل الراهنة في الصين. وقد حذر السناتور جون ماكين نائب وزير خارجية الصين من أن "الربيع العربي سيأتي إلى الصين". ولعل السياق المهيمن على التغطية الصحفية الغربية هو أن الحزب الشيوعي الصيني يتلقى أخيراً القصاص الذي يستحقه -لفساده ولسوء حكمه في المناطق الريفية، ولعدم مبالاته بالحقوق الإنسانية والديمقراطية. وتحت السطح ثمة شعور غير محكي، يجري الشعور به على نحو معمق -رغبة في مشاهدة الحزب الشيوعي الصيني وهو يطاح به من السلطة على يد شعبه نفسه.
 لكنه يجب علينا أن نكون حذرين حيال ما نرغب فيه. فنظير كل ازدراء الغرب لحكومة الصين في القرن 19 عندما ساقتها ثورة التايبينغ في الحقيقة إلى شفير الدمار، عمدت بريطانيا إلى التدخل حينذاك من أجل إبقائها في السلطة. ففي ذلك الوقت اعتمد اقتصاد بريطانيا، بشكل كبير، على سوق الصين (خاصة بعد فقدان سوق الولايات المتحدة لصالح الحرب الأهلية الأميركية في العام 1861)، لدرجة أن بريطانيا ببساطة لم تستطع تحمل مسؤولية ما يمكن أن ينجم عن تحقيق انتصار ثوري. ومع التشجيع الأميركي وإمدادات الأسلحة والطائرات العمودية والضباط العسكريين البريطانيين لحكومة المانتشو، تم في نهاية المطاف قلب الميزان في الحرب لصالحها.
ربما لا نكون قد تأثرنا بذلك القدر لحد الآن. وفي ضوء الحالة النذيرة لاقتصادنا في هذه الأيام، واعتماد أميركا القريب من أن يكون وجودياً على تجارتنا مع الصين على وجه الخصوص، يتساءل المرء: في مقابل كل إداناتنا المبدئية لحكومة الصين على خلفيات سياسية وحقوق الإنسان، لو ووجهت تلك الحكومة بثورة من الداخل -حتى بواحدة يقودها ائتلاف يدعو إلى حرية أكبر- فكم من المرجح لنا أن نجد أنفسنا في نهاية المطاف ونحن نأمل لتلك الثورة أن تفشل؟
*أستاذ مشارك للتاريخ في جامعة مساتشوستس، أمهريست، ومؤلف كتاب "الخريف في المملكة السماوية: الصين والغرب وملحمة قصة الحرب الأهلية للتايبينغ".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Is China Ripe for a Revolution?

[email protected]