هل الموازنة الحالية إصلاحية؟

مع  بدء مجلس النواب مناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة، تبرز أهمية العودة إلى التذكير بأن أحد أبرز المحكّات الحقيقية والجادة للإصلاح تُختبر من خلال الموازنة العامة؛ هل تعكس نوايا إصلاحية حقيقية، هل تضع في الحسبان الترجمة المالية لبرامج الإصلاح، وهل تعكس قيم العدالة في التوزيع؟اضافة اعلان
لقد قامت الخبرة الاقتصادية الأردنية خلال العقود الماضية على مواجهة الأزمات الاقتصادية بالحلول السياسية، من خلال قدرات استثنائية على جلب المساعدات الخارجية، العربية والغربية. وما يجري اليوم يبدو مؤكد الفشل في الوصول إلى حلول أخرى، ما يعيد مشروع الإصلاح، وفي بعده السياسي تحديدا، إلى المربع التقليدي، أي رهن الإرادة الخارجية.
ما يزال الفكر الاقتصادي المحلي عاجزا عن إيجاد حلول اقتصادية للأزمات الاقتصادية. فبعد أن أفرغت الحلول السياسية وتآكل دورها بفعل محددات خارجية، لا يمكن الاتكاء على الحلول الاجتماعية؛ فهناك حدود لصبر الناس وطاقاتهم على التحمل، ما يذهب بنا إلى أن الخطوة الجوهرية في اكتشاف صدق نوايا الإصلاح تكشفها الموازنات المالية للدولة، الأمر الذي يطرح السؤال الجوهري: هل تمثل موازنة العام القادم التي قدمت إلى البرلمان موازنة إصلاحية يوثق بها؟ 
الموازنة العامة للدولة تعد أدق وثيقة تعبر عن برنامج عمل الحكومة التفصيلي لعام بأكمله، وتعكس الاتجاهات الاجتماعية والسياسية للدولة بتعبيرات اقتصادية. لذا، فالاختبار الحقيقي للإرادة الإصلاحية تعكسه أرقام الموازنة العامة للدولة قبل أي شيء آخر. ولعل مراجعة وثائق موازنات سنوات ماضية هو أحد المؤشرات على مدى توفر إرادة الإصلاح من عدمه.
حينما ظهرت فكرة الموازنة العامة للدولة لأول مرة، في بريطانيا في القرن الثامن عشر وفي فرنسا في القرن التاسع عشر، استخدمت هذه الخطة كأداة أساسية لخلق تراكم في الإصلاحات الاجتماعية والسياسية بتعبيرات اقتصادية ومالية صرفة، وكانت الأداة الأساسية التي دفعت نحو الانتقالات الاجتماعية الكبرى، أي تطوير نوعية الحياة وتحقيق قدرات توزيعية أفضل للموارد التي يمتلكها النظام السياسي والاجتماعي. ومن هنا، ولدت فكرة المناقشات العامة والمعمقة للموازنات العامة. ويروي تاريخ الصحافة الغربية كيف كانت الموازنات تحدث نقاشات معمقة وجريئة يشارك فيها كبار الفلاسفة والمفكرين.
إعادة التفكير في منهجية مناقشة الموازنة العامة للدولة يتطلب البدء في عدم ترك هذه المهمة لصناع السياسة المالية فقط، فنحن في أمسّ الحاجة إلى أن نضفي على برنامج العمل المالي منطلقات اجتماعية وسياسية من الدرجة الأولى، تضمن ترجمة فعلية للنوايا الإصلاحية.
نحن بحاجة إلى التفكير في أربعة محاور أساسية كبيرة في سبيل أن تعكس الموازنة العامة للدولة رؤية إصلاحية فعلية، تبني التراكم المطلوب اجتماعيا وسياسيا، وهي: أولا، تمثل وثيقة الموازنة العامة الولاية العامة لكافة موارد الدولة، بحيث تظهر فيها وتخضع لها كافة الموارد، بما يضمن شفافية الاطلاع العام على كافة الإيرادات والنفقات لكافة مؤسسات الدولة، فلا نعود نسمع أن ثمة إيرادات ونفقات لا تخضع للموازنة العامة. ثانيا، مراجعة مسار حسابات وتدقيق المنح والمساعدات الخارجية، والطريقة التي تظهر بها في الموازنة العامة وحجمها الفعلي. ثالثا، إعادة هيكلة وتوجيه الإنفاق العام ليعكس البرامج الإصلاحية ببعدها المجتمعي الفعلي، والتحقق من مدى تلبيتها للحاجة المزمنة في تطوير قدرة المالية العامة لترجمة عدالة توزيع الموارد أفقيا وعموديا. رابعا، الموازنة العامة تعكس جانبا من علاقة المجتمع بالدولة، وجانبا مهما من علاقة المجتمع بالسوق، وفي الأمرين هناك اختلالات عميقة تبرزها في الحالة الأولى القدرات التوزيعية للنظام السياسي ومدى عدالة الأسعار التي تتقاضاها الدولة للخدمات التي تقدمها، وفي الحالة الثانية إصلاح النظام الضريبي.
في الأردن حديث لا ينتهي عن الإصلاح من دون عناوين واضحة. وعلى الأغلب، نتجاوز المنطلقات الأولى لإصلاح الحياة العامة، وأهمها على الإطلاق الموازنة العامة للدولة.

[email protected]