هل تستطيع الجزائر تخطي أزمتها الاقتصادية المديدة؟

321
321

يحيى الزبير* - (معهد بروكينغز) 15/1/2020

دخلت الأزمة السياسية في الجزائر أسبوعها الثامن والأربعين بعد أن بدأت عندما أعلن أتباع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 10 شباط (فبراير) 2019 أنه سيترشح لمنصب الرئاسة للمرة الخامسة. وبعد أن انطلقت الحركات الاحتجاجية في 22 شباط (فبراير)، ما يزال الملايين من الجزائريين يقيمون مسيرات في البلاد كل نهار جمعة للمطالبة بتفكيك النظام وتأسيس نظام ديمقراطي مدني حقيقي. وفيما أسقط الجيشُ بوتفليقة بالقوة في 2 نيسان (أبريل)، فإن الحراك ليس راضياً عن الإجراءات المنقوصة أو الإصلاحات الشكلية التي تُقدمها السلطات. وبدلاً من ذلك، ينبغي على الحكومة أن تعالج المطالب التي تقدم بها الحراك وأن تبادر إلى إجراء تغيير حقيقي عوضاً عن اللجوء إلى الخداع للمحافظة على النظام الحالي. اضافة اعلان
أفضت الأعوام العشرون الأخيرة من حكم بوتفليقة السلطوي والفاسد والغنائمي، وطبيعة النظام السياسي السائد منذ الاستقلال في العام 1962، إلى تصدع حقيقي للعقد الاجتماعي في الجزائر. وقد فقد الحكام شرعيتهم وما عاد الشعب الجزائري راضياً بأن يخضع لحكم بحسب النظام القديم.
بعد أن واجهت حكومة بوتفليقة حركة احتجاجية شديدة في العام الماضي، باشرت بخطة طريق قبل أن تم إسقاطه في 2 نيسان (أبريل). فسعى نائب الرئيس ورئيس هيئة أركان الجيش النافذ أحمد قايد صالح إلى تطبيق هذه الخطة. وكانت غايته أن يُعين رئيساً موالياً له ليؤمن واجهة مَدنية للجيش بغية المحافظة على النظام نفسه. وفيما نجح الحراك بإجبار النظام على إلغاء عمليتين انتخابيتين كان من المخطط إجراؤهما في نيسان (أبريل) وتموز (يوليو)، تمكن صالح من فرض تاريخ جديد في 12 كانون الأول (ديسمبر) من دون أخذ رغبة الشعب بعين الاعتبار. فاعترض الملايين من الجزائريين في البلاد وخارجها على هذه الانتخابات، وكانت نسبة إقبال الناخبين عليها هي الأدنى في تاريخ الجزائر. (ادعى بيان رسمي بأن نسبة 41 في المائة من الناخبين شاركوا في التصويت، غير أن أفضل التقديرات تراوحت بين 10 و15 في المائة). وكما عبرت الصحيفة الألمانية "داي تزايت" (Die Zeit) عن ذلك، فإنه ينبغي أن يفوز النظام الجزائري بجائزة نوبل للاحتيال. فقد ادُعي أن رئيس الوزراء السابق عبد المجيد تبون (أحد المرشحين الخمسة، كلهم من النظام السابق) حاز على نسبة 58 في المائة من الأصوات وبات الآن رئيساً. لكن تبون كان خيار أحمد قايد صالح، والسباق بين المرشحين الخمس ما هو إلا ذر للرماد في العيون.
ولم تسهم الانتخابات أبداً في التخفيف من مطالب المحتجين، بل على العكس، فقد برهنت مسيرة أقيمت قبل بضعة أيام في 10 كانون الثاني (يناير) 2020 على أن الحراك، على الرغم من بقائه سلمياً بشكل لافت، لم يفقد زخمه. فالمحتجون ليسوا على استعداد للتخلي عن مطالبهم الأساسية. وقبل أسبوع من المسيرة، أطلقت الحكومة سراح 76 مُحتجزاً سُجنوا في عهد سلطة صالح المتشددة قبل موته المفاجئ في 23 كانون الأول (ديسمبر). وفي اليوم ذاته الذي أطلق فيه سراح السجناء تشكلت حكومة جديدة برئاسة عبد العزيز جراد.
تقصير الحكومة الجديدة
توقعت الحكومة الجديدة أن يهدئ هذا الإجراء من روع الحراك، ولكن عبثاً. فمع استثناءات قليلة جداً، خدم معظم المعينين الجدد (وزراء ومندوبو وزراء وأمناء سر الدولة) قبلاً في عهد بوتفليقة في وظائف حكومية مختلفة، وخدم قرابة ثُلث الوزراء في الحكومة الجديدة (11 من أصل 28) قبلاً في حكومة بوتفليقة. ومع أن رئيس هيئة الأركان بالنيابة السعيد شنقريحة، وهو وجه ليبرالي أقل ظهوراً امتنع عن تولي منصب نائب وزير الدفاع، يعمل بصعوبة على فصل الجيش الوطني الشعبي عن السياسة، يبقى النظام السياسي ذاته قائماً. وأصبح تبون الآن وزير الدفاع (المرة الأولى التي يحتل فيها مدني هذا المنصب) وقائداً أعلى للقوات المسلحة، لكن هذا لا يعني أن له سلطة فعلية. ولا يريد الجيش أن يعطي الانطباع بأنه منخرط مباشرة في السياسة (كما كان في عهد صالح) من خلال شغل أحد من صفوفه منصب نائب وزير الدفاع. واتخذ الجيش هذا القرار عقب الأزمة الحادة في البلاد وفي صفوفه جراء سجن قادة وضباط مخابرات كبار وقرابة 30 وزيراً ورئيس وزراء سابقاً، فضلاً عن أزمة طالت جنرالات فارين في الخارج، وذلك من أجل الحفاظ على وحدته. ويرغب الجيش الآن بتفادي إعطاء الانطباع بأنه في حالة مواجهة مباشرة مع الحراك.
وهكذا، فوت الرئيس تبون فرصة ذهبية ليولد الثقة بين الدولة والمجتمع وليبدأ بعملية انتقالية حقيقية نحو نظام سياسي ديمقراطي. وبشكل غير مفاجئ، رفض المحتجون الحوار من جديد مع ما يرونه أنه رئيس وحكومة غير شرعيَّين. فهم يطالبون بحكم مدني وبإقصاء المسؤولين الفاسدين. ويريد الجزائريون استقلالاً حقيقياً من القمع والحكم السلطوي والغنائمية والمحسوبيات والزبائنية والحكم الفاسد. إنما يريدون "جمهورية جديدة".
بالنسبة للمحتجين، تعيينُ بضع شخصيات تكنوقراطية في الحكومة أمر لا أهمية له ويدل على أنه ليس لتبون نية تغيير النظام. وترى الحركة الشعبية كل خطوة تخطوها الحكومة محاولةً للمحافظة على النظام ذاته الذي يريد المحتجون التخلص منه، وقد لجأ النظام في السابق إلى تغييرات شكلية (مثلاً بعد أعمال الشغب العنيفة في العام 1988 عندما غيرت الحكومة الدستور وسمحت بنشوء نظام تعددي الأحزاب) كاستراتيجية لإنقاذ النظام وإنعاشه بعد وقوع أزمة كبيرة.
والنتيجة أن السلطات الجديدة قدمت تنازلات زهيدة للحراك. فليس إطلاق سراح بعض المعتقلين السياسيين بادرة حقيقية، لأن هؤلاء المعتقلين سُجنواً ظلماً أصلاً. زد على ذلك أن المعتقلين الباقين، ومنهم مَن يمثل الحراك فعلاً، ما يزالون في السجن.
تقول الحكومة إنها تريد التحاور (الحراك مُدرك أنها محاوَلة لإحداث شرخ في الحركة الشعبية)، لكن في ظل الظروف الراهنة، لا منفعة في الحوار سوى أنه يمنح الحكومة بعض الشرعية التي تفتقر إليها. والأزمة ليست سياسية فحسب. فقد تأثر الاقتصاد بشدة منذ انهيار أسعار النفط في العام 2014، ولا سيما أن الدولة الريعية لم تنوع يوماً في اقتصادها. وأبعدت الأزمة الراهنة الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ولم تعين الحكومة وزير اقتصاد بعد، ربما لأنه ما من اقتصادي مرموق (مثلاً أحمد بن بيتور الذي يرفض الانضمام إلى الحكومة) يرغب في الانضمام إلى نظام لا ثقة فيه. وبعيداً عن الاقتصاد، يشكل استمرار الأزمة خطراً أمنياً، فالجيش عرضة لخطر خسارة مكانته العالية لدى الشعب في وقت تواجه فيه الجزائر مخاطر كبيرة على طول حدودها، وبالتحديد من ليبيا والساحل.
دعوة للاحترام المتبادل
كيف تستطيع الجزائر تخطي الأزمة؟ يبقى الحل الذي لا مفر منه هو عملية انتقالية ديمقراطية حقيقية من خلال جمعية دستورية أو أي آلية انتقال مُتفق عليها. ويعني ذلك حَل البرلمان الحالي واستبداله في نهاية المطاف بممثلين أصيلين مُنتخبين ديمقراطياً، فضلاً عن تشكيل لجنة انتخابية مستقلة مُعينة ديمقراطياً ووضع حدود صارمة للولاية الرئاسية. ويتطلب إنشاء حكم القانون والحوكمة الرشيدة والمؤسسات القوية في الجزائر التعاونَ مع ممثلي الحراك اللاحقين.
قبل الشروع في إجراء من هذا النوع، ينبغي على السلطات تحرير كل المعتقلين السياسيين لخلق ظروف توحي بالثقة للمفاوضات. ومن الممكن الوصول إلى اتفاق بين الدولة والمعارضة، لكن ذلك يتطلب ألا يكون الموظفون الفاسدون طرفاً في هذا الإجراء. عوضاً عن ذلك، في الدولة أفرادٌ وطنيون بالفعل ينبغي أن يكونوا جزءاً من العملية الانتقالية. وينبغي أن تكون الشرعية الشعبية أساس النظام الجديد، فيما ينبغي أن يكون القضاء مستقلاً (لا معولاً على اتصالات من المسؤولين لإصدار الأحكام). ومن الضروري طبعاً الوصول إلى تسوية بين الأحزاب السياسية المستقلة والقوى الاجتماعية والرئاسة والحراك.
إذا رغب الرئيس الجديد في النجاح في إرساء الثقة، عليه أي يُبدي رغبة حقيقية في الاستماع إلى مطالب الحراك والمجموعات الاجتماعية والسياسية المعنية الأخرى، لا أن يباشر بالمفاوضات مع اقتراحات موضوعة مسبقاً. ويشكل قرار تبون في 8 كانون الثاني (يناير) بتعديل الدستور خطوة صغيرة إلى الأمام، شرط أن يلبي هذا القرار بعض الشروط. فقد طلب من اللجنة المسؤولة عن الموضوع التركيزَ على "إضفاء الأخلاقية على الحياة العامة ومكافحة الفساد" و"تعزيز فصل السلطات وتوازنها" و"تعزيز سلطة البرلمان الرقابية" و"تعزيز استقلالية السلطة القضائية" و"تعزيز المساواة بين المواطنين أمام القانون" و"التكريس الدستوري لآليات تنظيم الانتخابات". وهذه أهداف أساسية، ولكن للأسف وضعت الدساتير الجزائرية أهدافاً مماثلة لها في الماضي من دون أن تطبقها يوماً. وفي العام 2014، احتفظ بوتفليقة باقتراح دستوري واحد من أصل 32 اقتراحاً كان قد طرحها المستشار ذاته في القانون الدستوري. ولا يمكن أن تصبح هذه المراجعة مجرد مشروع تقني يقوم به الأكاديميون بل ينبغي أن تشكل مشروعاً سياسياً يأخذ في الاعتبار طبيعة الدولة والجيش، فضلاً عن الاعتبارات الاجتماعية الاقتصادية والجيوستراتيجية والتعليمية والثقافية.
ما هي الضمانات التي ستضعها الدولة لمنع رئيس آخر من تعديل الدستور بحسب ما يطيب له، كما فعل بوتفليقة في العام 2008 وفي العام 2016؟ ينبغي أن يجعل الدستورُ تمديدَ فترة الحكم أمراً مستحيلاً. هل من ضمانة أن الدستور المُعدل سيحرص على توازن السلطات في الدولة؟ لا يستطيع تبون ببساطة أن يقدم طرحاً موضوعاً مسبقاً، بل عليه الإقرار بمعايير الحركة الشعبية وبالطبقة السياسية القديمة. لقد ولى زمن القرارات الأبوية. وعلاوة على الدستور، على السلطات مراجعة قوانين أخرى (حول الانتخابات والإعلام ووسائله والأحزاب السياسية، إلخ). والتشكيك في هذا الأمر مبرر لأن النظام يتبع الممارسات ذاتها ويوظف الأشخاص ذاتهم الذين باتوا الآن مسؤولين عن تقديم دستور معدل. وينبغي على تبون السماح باستقلال الإعلام وتشجيع النقاشات السياسية غير المقيدة، وعليه أيضاً أن يوقف قمع الحراك في خلال الاحتجاجات.
لكن الأهم هو أن تعلن الحكومة عن استعداد حقيقي للتفاوض. وعلى الحراك والقوى السياسية الأخرى من جهتها القبول بالتعددية والإعلان عن استراتيجية ووضع رؤية للمستقبل وتقديم اقتراحات حقيقية (حتى لو فعل بعض الأشخاص ذلك بشكل منفرد). ولكي تحظى الجزائر بأمل بالتقدم، ينبغي على الأطراف كافة المشاركة في الحوار الاتفاق على عدم رفض الآخر تلقائياً.
*زميل زائر في مركز بروكنجز الدوحة.