هل تقودنا التكنولوجيا إلى الشيوعية؟

التطور التقني قد يفرز تكوينا اقتصاديا واجتماعيا بلا طبقات - (أرشيفية)
التطور التقني قد يفرز تكوينا اقتصاديا واجتماعيا بلا طبقات - (أرشيفية)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة توم كاساورز - (أوزي) 20/8/2019 يزعم عدد متزايد من المفكرين والأكاديميين اليساريين أن الثورات التكنولوجية في القرن الحادي والعشرين يمكن أن تقودنا إلى نموذج سياسي واقتصادي لا طبقي. * * * ربما لم يفكر مؤسسو "نابستر"(1) Napster بالشيوعية في العام 1999 عندما جعلوا من مشاركة الملفات الصوتية الرقمية، من نظير إلى نظير، ممكنة. لكنهم بقيامهم بذلك قوضوا أحد العناصر الأساسية للرأسمالية: الندرة. ومن دون ندرة، تنخفض الأسعار إلى الصفر وتتوقف الأسواق عن العمل. ولذلك، عندما بدأ الناس في نسخ الأغاني ومشاركتها مجاناً، فإنهم قاموا بتدمير نموذج الأعمال الخاص بشركات التسجيلات، بتنزيل أغنية واحدة في كل مرة. في النهاية، تم إغلاق "نابستر" بسبب التهديدات القانونية. لكنها قصتها أظهرت لنا، حسب رأي المؤلف والناشط البريطاني آرون باستاني، لمحة عن مستقبلنا الشيوعي. في كتابه الجديد، "شيوعية مترفة مؤتمتة بالكامل"، يجادل باستاني بأن التقنيات الجديدة، من الطاقة الشمسية وتعدين الكويكبات إلى كريسبر/ كاس 9 (تعديل الجينات) والإنترنت عبر الأقمار الصناعية، يمكن أن تخفض بشكل كبير أسعار جميع أنواع السلع والخدمات. وباستاني واحد من بين عدد متزايد من الباحثين والكتاب والأكاديميين ذوي الميول اليسارية الذين يتطلعون إلى التكنولوجيا -ليس باعتبارها تهديداً يسرق الوظائف، وإنما كحليف. يجادل هؤلاء بأن الرأسمالية لن تكون في النهاية قادرة على مواجهة انفجار التغير التكنولوجي الذي يجلبه القرن الحادي والعشرون، والذي يدفعنا إلى عالم ما- بعد- الندرة، وهو عالم لا تعود فيه الأسواق تعمل حقاً. ويقولون إن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها الرأسمالية البقاء على قيد الحياة هي استخدام التهديدات القانونية وبراءات الاختراع لاستعادة الندرة بشكل مصطنع. يقدم الكاتب وصحفي الأعمال البريطاني، بول ماسون، أطروحة ما-بعد-الندرة في كتابه "ما بعد الرأسمالية" الأكثر مبيعاً في العام 2015. وفي كتابهما "اختراع المستقبل" الصادر في العام 2015، تحدث المنظر السياسي الكندي نيك سرينيسك ومحاضر السياسة البريطاني ألكس ويليامز بالمثل عن كيف يمكن أن توفر لنا التكنولوجيا عالماً عالي التقنية، والذي يتجاوز الرأسمالية والندرة. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، كتب بيتر فريز، عضو مجلس الإدارة والمساهم في موقع "جاكوبيان" في العام 2016 كتاباً بعنوان "أربعة أنواع من المستقبل"، حيث يعرض مستقبلًا موسوماً بالمساواة والوفرة، والذي يسميه الشيوعية. ويتحدث آدم غرينفيلد، الكاتب وخبير التخطيط الحضري في فيلادلفيا، عن الآثار التحريرية للتكنولوجيا في كتابه "تقنيات متطرفة: تصميم الحياة اليومية". يقول باستاني: "هذا التشويش (التكنولوجي) يخلق ظروفاً فريدة لظهور الشيوعية". فكِّر في الشيوعية فقط، وسوف يتخيل المعظم بلداناً مثل الاتحاد السوفياتي السابق أو الصين الماوية، حيث تسيطر الدولة على كل شيء. ومع ذلك، وصف كارل ماركس الشيوعية ببساطة بأنها مرحلة ما بعد الرأسمالية والاشتراكية، حيث نكون قد قضينا، من خلال الابتكار التكنولوجي، على الندرة، وحيث يمكننا أن نعمل بقدر ما نريد ونستهلك الكثير من السلع والخدمات بقدر ما نحتاج. وهو عالَم مشابه للعالم الذي يصوره مسلسل الخيال العلمي الأميركي "ستار تريك" Star Trek، حيث تنتج الآلات التي يُطلق عليها "الناسخات" كل سلعة وخدمة تقريباً بالمجان، وبحيث يمكننا نحن أن نتجول حول المجرة للتحقيق في الأسرار العلمية. أو لكَ أن تتخيل مركز تسوق مؤتمت لـ"أمازون"، حيث لا تحتاج إلى الدفع عند المغادرة. ويقول باستاني: "كانت الشيوعية بالنسبة لماركس طريقة جديدة للإنتاج. إنها مرحلة التطور البشري بعد الاشتراكية. في ظل الشيوعية، لا تكون لديك ندرة، وليس عليك أن تبيع عملك مقابل أجر." في حين يعتقد المفكرون اليساريون الجدد الذين يقترحون هذه الأفكار بأن الابتكار التكنولوجي يجعل مستقبل الانعتاق (من الرأسمالية) ممكناً، فإنهم لا يقولون أن المجتمع سيتحول إلى واحد شيوعي بشكل تلقائي. ويقولون أن فترة بينية اشتراكية ستكون ضرورية. ويقول باستاني: "سوف يتطلب الابتعاد بنظامك عن الرأسمالية وجود السياسة والصراع الطبقي والأفكار الجديدة". وهذه واحدة من العديد من المشاكل في حجة هؤلاء المفكرين اليساريين المحبين للتكنولوجيا، كما يقول كريستيان نيميتز، رئيس قسم الاقتصاد السياسي في معهد الشؤون الاقتصادية البريطاني المؤيد للسوق الحرة. من الصين الماوية إلى فنزويلا اليوم، انحدرت كل دولة حاولت أن تحقق مثل هذا الطور الاشتراكي الفاصل بين الفترتين بشكل حتمي إلى الشمولية، كما يقول. ويضيف نيميتز: "بالطبع لا يبدأ الاشتراكيون أبداً بقصد بناء نظام شمولي، بل إن الاشتراكية تنتهي بهذه الطريقة لأنها تؤدي إلى تركيز هائل في السلطة". يعترف باستاني بأن "البلدان المتخلفة التي تحاول أن تصبح صناعية باسم الشيوعية لم تنجح بشكل واضح." بدلاً من ذلك، يستشهد بنسخة من القرن الحادي والعشرين للديمقراطية الاجتماعية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية كنموذج يسعى إليه. ويقول: "اليوم، يمكن أن نترجم ذلك إلى مزيد من السيطرة على العمال من أسفل إلى أعلى وتوطين أقل من أعلى إلى أسفل". ويشبه هذا إلى حد كبير نسخة عالية التقنية من خدمة الرعاية الطبية الوطنية البريطانية أو الديمقراطية الاجتماعية السويدية، بينما هو أقل شبهاً بميليشيات ترفع العلم الأحمر فوق قصر وايتهول أو البيت الأبيض. ولكن، بصرف النظر عما إذا كانوا من أصحاب البصيرة أم صبيانيين فحسب، فإن هؤلاء المفكرين يشكلون افتراقاً جذرياً عن الطريقة التي رأى بها الكثيرون في اليسار التكنولوجيا لعدة عقود حتى الآن. لقد نظروا إلى رأسمالية التكنولوجيا المتقدمة على أنها تدفعنا نحو أزمة مناخ ومجتمع مستهلِكين مجرداً من الإنسانية. وكان الحل هو العودة إلى التواصل مع الجانب المحلي غير التكنولوجي من حياتنا السابقة قبل الصناعة. ويقول وليامز، المؤلف المشارك في كتاب "اختراع المستقبل": "عادة ما اعتنق اليسار بعد العام 1960 وجهة النظر التي تقول بأن التكنولوجيا كانت في جوهرها رأسمالية وغير إنسانية وغير ديمقراطية". لكن أولئك في اليسار الذين اختلفوا حول ما يمكن أن تقدمه التكنولوجيا التقوا حول مصطلح مناقض: التسارعية accelerationism.(2) وفي الأصل، تشير الكلمة إلى مدرسة فلسفية جادلت بأن الرأسمالية بحاجة إلى التسريع قبل أن نتمكن من الانعتاق. ويقول وليامز: "المصطلح له مجموعة معقدة من المعاني، ويحب الناس تفسيره بأكثر الطرق بساطة، مثل أن الرأسمالية يجب أن تصبح أسوأ حتى تكون لدينا ثورة". في كتابهما الصادر في العام 2013، والمعنون "#بيان التسريع"، حاول ويليامز والمؤلف المشارك سرينيسك إعادة تعريف المصطلح بحجة أنها ليست التكنولوجيا في حد ذاتها هي التي تهم، وإنما "ما يفعله المجتمع". ويقول ويليامز إن تطوير التكنولوجيا، الذي تقوده الآن الشركات الكبرى، يجب أن يخضع للسيطرة الديمقراطية. ويعترف باستاني أيضاً بأن جزءًا من الجمهور الذي يأمل في تحويله يأتي من داخل اليسار - نشطاء "خُضر بعمق" معادين للتكنولوجيا، على الرغم من أنه -ووليامز معه، إذا كان هذا يهم- لا يعتبران نفسيهما من أنصار التسارعية. يعرب نيميتز عن قناعته بأن هؤلاء المفكرين من اليسار الجديد فهموا الأمور خطأ. ويوضح كيف تمكنت صناعة الموسيقا بعد "نابستر" من استخدام التكنولوجيا نفسها لاستعادة الربحية من خلال خدمات بث مثل "سبوتيفاي" Spotify.(3) ويقول: "استطاعت صناعة الموسيقى التغلب على انخفاض الأسعار. بل إنها جعلت الرأسمالية تعمل بشكل أفضل في الحقيقة. وفيما يتعلق بالموسيقا، حصلنا بالفعل على رأسمالية مُترفة مؤتمتة بالكامل". ولكن، للوصول إلى هناك، كان لا بد من سحق "نابستر" أولاً. ويعرِف باستاني أن اليسار تنبأ بزوال الرأسمالية بشكل متكرر، فقط ليثبُت خطؤه. لكنه يصر على أن الأمر مختلف هذه المرة. ويقول: "أعرف أن الماركسيين كانوا مخطئين بهذا الشأن في الماضي. ولكن، سيكون من المفاجئ حقاً إذا تمكنت الرأسمالية من التغلب على مشاكل مثل تغير المناخ وما- بعد- الندرة". *نشر هذا المقال تحت عنوان: Is tech leading us to communism? هوامش: (1) نابستر، Napster هي مجموعة من ثلاث خدمات عبر الإنترنت تركز على الموسيقا. تم تأسيسها كبرنامج رائد لمشاركة ملفات نظير إلى نظير، والذي ركز على مشاركة ملفات الصوت الرقمية -عادةً الأغاني الصوتية- التي يتم ترميزها بفورمات MP3. (2) في النظرية السياسية والاجتماعية، التسارعية هي الفكرة القائلة بأنه يجب تسريع الرأسمالية، أو العمليات الخاصة التي ميزت الرأسمالية تاريخياً، بدلاً من التغلب عليها من أجل إحداث تغيير اجتماعي جذري. (3) سبوتيفاي،Spotify هي شركة خدمات وسائط سويديّة تأسست في العام 2006. والعمل الأساسي للشركة هو بث تدفق الصوت الذي يقدم الموسيقا المحمية بنظام DRM وعمليات البث من علامات التسجيل وشركات الإعلام.اضافة اعلان