هل تمهّد العدالة الرقمية طريقا للعدالة المجتمعية؟

د. نبيل إبراهيم الفيومي*

أحاول الوقوف بعيداً عن التنظير والتهويل حول التأثيرات المستقبلية الهائلة للتقنيات الفائقة كالذكاء الاصطناعي (والإدراكي) والحواسيب الكميّة والبيانات الضخمة والروبوتات وإنترنت الأشياء وشبكات اتصال الجيل الخامس، والمركبات ذاتية القيادة والمنازل الذكية والكثير من التقنيات التي تقلب موازين الحياة الحديثة بسرعة هائلة. ورغم كل التنبؤات عن التغيّر الهائل في نمط الحياة البشرية بسبب هذه التقنيات، والتحديات التي ستخلقها، فلا بد لنا من وقفة جديّة نحاول فيها سبر أعماق التحديات بحثاً عن فرص سانحة.
وربما تكون الفرص الأكبر الناتجة عن هذا التحول التاريخي هي للدول النامية، أو ما تسمى بدول العالم الثالث، نظراً للثورة الرقمية المتعاظمة والتي تخلق، بقصد (لأسباب اقتصادية وتجارية بحتة) أو بغير قصد (بسبب طبيعة التقنيات ذاتها)، نوعاً من العدالة الرقمية من حيث توفر الموارد الرقمية وتقنياتها بلا حواجز لكافة البشر، الأمر الذي يمكّن المبدعين من تحويل أفكارهم إلى واقع، وخصوصاً المنتجات والاختراعات التكنولوجية، والتي أصبحت بشكل أو بآخر تحرّك العالم وتتحكم فيه. ليس ذلك فحسب، بل إن الصناعات بأنواعها والتي شكلت يوماً ما الفارق بين العالم المتحضر والمتأخر أصبحت هي الأخرى تابعاً لعالم التقنية والمعرفة وتتحول تدريجياً بحد ذاتها إلى منتج يمكن الحصول عليه بسهولة بعيداً عن سيطرة حيتان الصناعة التقليديين. ولا أدل على ذلك من تقنيات الطباعة الثلاثية التي تدخل تدريجياً في كافة مجالات الصناعة والتطوير بما في ذلك الهندسة الحيوية، وهندسة البناء، والتصنيع، وغيرها من المجالات التي كانت، وليس منذ زمن بعيد، حكراً على قلة قليلة من الدول الصناعية المتقدمة.
وبالرغم من إيجابياتها الهائلة، فإن هناك تحديات خطيرة للتقنيات الفائقة، والتي تتطور بأنماط يصعب السيطرة عليها، قد بدأت تتبلور فعلياً من خلال إدخال تغييرات جذرية على البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات، وخصوصاً تلك المتقدمة منها والتي تتبناها بوتيرة عالية وتعتمدها يوماً بعد يوم، مما يثير الكثير من المخاوف في تلك المجتمعات لدرجة التخوف من سيطرة التقنيات على الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد حدا هذا الكثير من المفكرين والقادة المسؤولين لرفع مستوى التحذير من تأثيرات هذه التقنيات والدعوة إلى تبني أطر قانونية وتشريعية وأخلاقية للتعامل مع مخاطرها، والتي لن نخوض فيها نظراً لتعقيدها وتكرار طرحها في المنتديات العلمية والفكرية على حد سواء. ولكن ما يهمنا هنا، السؤال عما نحن فاعلون كدول نامية ومجتمعات – ربما لحسن الحظ – متأخرة قليلاً في مجال التقنيات الفائقة؟ فبالرغم مما ستجلبه من فوائد، أوليس من المنطق أن نتفكر ملياً في مخاطر هذه التقنيات التي ستهدد مجتمعاتنا كما يحصل مع الدول المتقدمة؟ وهل من العقلانية بمكان أن ندفن رؤوسنا في الرمال على أمل أن تمر هذه الموجة من المخاوف دون تأثيرات فعلية وعميقة علينا؟ والأهم من ذلك هل تجد نداءات التحذير والتخوف صدى لدينا؟ ولا أدعي هنا أنني أحيط علماً بالمشكلة والحل لأنها تتجاوز أي قدرة فردية، ولكنني أجزم بأننا لغاية الآن لا نأخذ الأمر على محمل الجد، لا كدول ولا كمجتمعات ولا حتى كأفراد!
يجدر التأكيد على أهمية الوقوف ضمن إطار نظرة إيجابية عقلانية بعيدة عن المغالاة في التفاؤل أو التشاؤم، مع الحرص على واقعية الطرح ضمن الظروف والمعطيات الخاصة بنا للخروج بحلول إبداعية تركز على التعامل مع تحديات التقنيات الفائقة وإجادة استغلال الفرص الكامنة فيها، والتي أزعم بأنها تشكل فرصة تاريخية يمكن من خلالها تضييق الفجوة التقنية والحضارية بين دولنا النامية والعالم المتقدم. فالثورات السابقة، وخصوصاً الصناعية الثالثة، وسّعت الفجوات بين الأمم المتقدمة والمسيطرة على العالم والدول النامية أو ما يسمى بالعالم الثالث، وتسببت في كوارث إنسانية وحضارية ما تزالت تعاني منها الأخيرة.
لا أبالغ بالقول إن الفرصة التاريخية المتمثلة في العدالة الرقمية التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة قد تكون الأولى وربما الأخيرة في العصر الحديث لإحداث فرق حقيقي في نمط تداول السيطرة على العالم وصولاً إلى حقبة تتقلص فيها الفجوات الحضارية بين الأمم المتنافسة، وربما بطريقة أكثر عدلاً وإنسانية من ذي قبل يمكن أن تمهد الطريق لعدالة مجتمعية حقيقية.

اضافة اعلان

*رئيس إدارة المعرفة – الجمعية العلميّة الملكية