هل ثمة نهاية للتاريخ؟

علاء الدين أبو زينة يكتب أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، تشارلز ليزبون في عنوان مقاله عن الأزمة الأوكرانية الراهنة: «لا تخطئن، لقد انتهت ’نهاية التاريخ‘«. ويخلص إلى أن غزواً رئيسياً لأوكرانيا سوف يعيدنا إلى «الحرب الباردة» حيث يتشكل تحالف مناهض للغرب مكون من روسيا، والصين، وإيران، وكوريا الشمالية. ويفترض ليزبون أن هذا «معسكر الاستبداد» في مواجهة «معسكر الديمقراطية الليبرالية» الغربي. بذلك، حسب الكاتب، يتقوض اقتراح فرانسيس فوكوياما عن «نهاية التاريخ». وتقترح أطروحة فوكوياما، باختصار، أن «الديمقراطيَّة الليبرالية، بقِيمها عن الحرية، والفردية، والمساواة، والسيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، هي مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان، وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية. ولن يسود هذا الشكل عملياً بالضرورة، وإنما سيتشكل إجماع عند معظم الناس بصلاحية وشرعية الديمقراطية الليبرالية، لتنتصر بذلك على صعيد الأفكار والمبادئ، باعتبارها الخيار الذي ليس له بديل يستطيع تحقيق نتائج أفضل». صاغت أطروحة فوكوياما إلى حد كبير خطاب الغرب في العقود التي تلت انتهاء «الحرب الباردة» بانهيار الاتحاد السوفياتي. وتأسس هذا الخطاب في نفس التصور الأيديولوجي المتطرف عن الصلاح الذاتي المطلق والتفوق الذي لا يُلحَق. وهو امتداد محدَّث فقط لخطاب «التنوير» و»مهمة الرجل الأبيض» الإمبريالي التفوقي الذي برر الاستعمارات. لكنّ الحديث عن «إجماع» حتمي كوني على صلاحية الديمقراطية الليبرالية – لم ولن يتحقق- لن يُطعِم خبزاً وحده. ولذلك، بررت نظرية صامويل هنتنغون عن «صدام الحضارات»، بعد فوكوياما بعقد تقريباً، اشتباك الغرب الحتمي من أجل تسريع وصول «نهاية التاريخ» كمصلحة بشرية أخلاقية. والنظرية أنه بعد أن وضعت نهاية الحرب الباردة نهاية للصراع بين الدول القومية وأنهت اختلافاتها السياسية والاقتصادية، تتبقى الخلافات الثقافية كمحرك رئيس للصراع. وسوف يُحسم هذا الصراع بأخذ الديمقراطية الليبرالية إلى الشعوب المختلفة ثقافياً، لكنها المقتنعة بصلاحية الديمقراطية الليبرالية كحتمية يقينية، ولو على متن دبابة وبالتضحية من أجل «تحرير» الشعوب. ووضعت خطوط عديدة تحت تناقض رئيسي يُفترض أنه يعطل قدوم «نهاية التاريخ» بين حضارة الإسلام «الإرهابية، المتعصبة والمتخلفة» وحضارة الغرب المتفوقة المنفتحة. وكذلك بين الغرب الديمقراطية و»الأوتوقراطيات» التي حددها ليزبون أعلاه. ثمة تهافت مضاعف في مقولة صلاحية «الديمقراطية الليبرالية» كنهاية للتاريخ والأيديولوجيات. أولاً، يعاني العالم كله من الويلات، والمظالم، والتبعية، والتخلف، ونهب الثروات، والتدخلات والاحتلالات، والفساد وتسلط القلة، والفقر وكل أنواع المصائب، بسبب سياسات الهيمنة والاستئثار والوصاية القسرية التي تمارسها «الديمقراطيات الليبرالية». ويتركز عمل «الديمقراطيات» في الحقيقة على إعدام أي فرص عالمية لحرية الفرد خارجها، والمساواة، وتحرر الدول وتقدمها حسب وصف فوكوياما للـ»إنسان الأخير». ثانياً: يعاني الناس في ديمقراطيات «نهاية التاريخ» الرأسمالية من انعدام المساواة المطلق في الثروة والامتيازات؛ ومن العنصرية؛ وصعود الشعبوية؛ ونزعات التفوقية؛ واضطهاد الأقليات والملونين؛ وكراهية الأجانب. وعندهم تحدد النخبة الأوليغارشية من الساسة/ التجار التعريفات والقوانين لتعظيم امتيازاتها فقط. وثمة مطالبة مستمرة بمراجعة صلاحية «الديمقراطية الليبرالية» التي تفرز هذه الظواهر غير العادلة. يعرف المعذبون في الأرض على يد أصحاب «نهاية التاريخ»، أنهم لم يعانوا غالباً من عمل «الأوتوقراطيات»، التي تنشغل أساساً بتنظيم بيوتها وصوغ علاقاتها المتعارضة مع «الديمقراطيات» الإمبريالية. وفي مسألة أوكرانيا -التي ستنهي «نهاية التاريخ»- ترى «الديمقراطيات الليبرالية» لنفسها حقاً إلهياً بنشر صواريخها وجنودها على حدود روسيا، بينما ليس للأخيرة حق في نفوذ خارج حدودها. لم لا، والديمقراطيات وحدها تمتلك الحقيقة الإلهية للسعادة البشرية؟ سوف ينتهي التاريخ، بمعنى انتهاء صراع الأيديولوجيات، عندما ينتهي صراع البشر على الهيمنة والموارد؛ عندما يقبل كل فرد بأخذ ما يكفيه فقط من ثروة العالم وموارده. لكن «ما يكفيه فقط» مفهوم إشكالي في حد ذاته: أي صاحب مليارات يعتقد بأن ما لديه يكفيه؟ كان الصراع على الموارد والامتيازات هو السيد منذ أحاط أول إنسان أرضاً بسياج واعتقل حيوانات وسماها أملاكه. وابتُكرت كل الأيديولوجيات والأديان لتبرير حق أصحابها في امتلاك حصة أكبر – وربما كل الحصة إذا أمكن، على أساس أنهم المُلاك الحصريون لحقيقة صالح الإنسان وصلاحه. ويلزم تطوير الوسائل المادية للهيمنة والإخضاع لتحقيق «نهاية التاريخ» المثالية الحصرية. لن تسمح النفعية البشرية لأي أفكار طوباوية بالتجسد. ثمة نهاية واحدة للتاريخ: موت «الإنسان الأخير» بعمل الإنسان: بتخريب بيئة الكوكب وتطوير أسلحة الإبادة الشاملة، بدفع الطمع وتبرير الأيديولوجيات والأديان والعقائد المتعارضة. عندئذٍ فقط ستحل نهاية الأيديولوجيا -والتاريخ.

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا

اضافة اعلان