هل كلما طال الزمن غاب عن الفكر الوطن؟

قبل الانتداب على فلسطين وفي أثنائه بهدف تهويدها تنفيذاً لوعد بلفور وقرار عصبة الأمم، امتزج اليهود بعرب فلسطين وتعايشوا معهم وإن مرت أوقات وقع فيها الاصطدام بينهم وسالت فيها الدماء. ومع ذلك ظلت العلاقات بينهم بمختلف أشكالها ومستوياتها قائمة، وكان بعض اليهود أقرب إلى الفلسطينيين أو العكس منهم إلى بعض اليهود أو العكس.اضافة اعلان
كان ما يسمى بجيل التأسيس من اليهود مستميتاً في الحصول على القبول، وكان بعضهم مستعداً لقبول فكرة الدولة الواحدة.. ولما أقام جيل التأسيس هذه الدولة سنة 1948 بنتائج قيامها الكارثية على شعب فلسطين كانت دولته في نظر الفلسطينيين والعرب والمسلمين جميعاً مزعومة لا يعترفون بوجودها ولا بحقها في الوجود. ولما أكمل الجيل نفسه اغتصاب فلسطين بحرب حزيران سنة 1967 انقلب الطرف الفلسطيني العربي المسلم على عقبيه واعترف بوجود إسرائيل ممثلاً بدعوة الرئيس عبد الناصر إلى إزالة آثار العدوان وبموافقتهم على قراري مجلس الأمن: 338،242.
وعندما انتقل الحكم إلى الجيل اليهودي الإسرائيلي الثاني كما يمثله نتنياهو، تغيرت كلياً نظرة اليهود الى الحق الفلسطيني في فلسطين وابتعدوا كثيراً عن أدبيات الجيل الأول، فعلاقات هذا الجيل مع الشعب الفلسطيني في فلسطين شبه مقطوعة ولا يهمه أن يعرف عنها شيئاً أو يعود إلى التاريخ وإلى الإشارة إليها في مدرسة أو كلية أو جامعة.
لقد تكون جيل يهودي ينكر حقوق الشعب الفلسطيني كافة في فلسطين ويراوغ ليل نهار للفوز بها كاملة. إن خطاب نتنياهو في الكونجرس دليل عليه. ومع هذا وعلى الرغم منه تطور الموقف الفلسطيني العربي المسلم نحو مزيد من التنازل عندما أكد علناً بالمشروع العربي للسلام حق إسرائيل بالوجود ولخص كل مطالبه للاعتراف بها موافقتها على قيام دولة فلسطينية في إطار حدود سنة 1967.
واليوم نحن أمام الجيل اليهودي الثالث الذي لا يعرف ولا يعترف بأنه كان للفلسطينيين وجود في فلسطين وأن الباقين منه مجرد وافدين للعمل أو غزاة محتلين لأرضه التاريخية، وهو بذلك أشد إنكاراً وخطراً على الحقوق من الجيلين السابقين. ولعل من يوصفون بشبيبة التلال هم الصورة الحقيقية لهذا الجيل، فهم حركة شبابية إسرائيلية استيطانية متطرفة لا تعترف بماض أو حاضر أو مستقبل أو علاقة للفلسطينيين بفلسطين. وقد نشأت بين المستوطنين في الضفة ويقيم أفرادها فيما يسمى بالبؤر الاستيطانية أو العشوائية كمقدمة لإنشاء مستوطنة جديدة وتطفيش الفلسطينيين. وقد انبثقت عن هذه الحركة مجموعة أكثر تطرفاً تعرف بحركة جباية الثمن؛ أي الانتقام من الفلسطينيين لمجرد وجودهم هناك.
لقد اختفى جيل اليهود الذي عاش مع الفلسطينيين قبل النكبة كما يختفي تدريجياً الجيل الثاني الذي يعرف عن مقدماتها وعواملها وأخذ يحل محلها جيل أو أجيال لا تعرف شيئاً عن الأرض سوى أنها مسقط رؤوسهم وأنهم نشؤوا في دولة قائمة معترف بها من العالم أجمع. وبالمقابل أخذت الأجيال الفلسطينية والعربية والمسلمة الجديدة تتنازل عن حقوقها ومطالبها الأساسية في فلسطين جيلاً وراء آخر وتنجر في كل مرة الى قعر أو قاع عروض السلام الإسرائيلية الزائفة.
إن كثيراً من أفراد الجيل الحالي الفلسطيني والعربي والمسلم يجهلون تاريخ القضية لأنها لا تعلم في المدارس والجامعات. بل إن كثيراً من أبناء فلسطين وبناتها في الشتات صاروا لا يعرفون أسماء قراهم وبلداتهم ومدنهم المغتصبة. يبدو أنه كلما طال الزمن يغيب عن الفكر الوطن كما هو غائب الآن عن ذهن أجيال الأندلس الأخيرة الذين هُجّر أجدادهم منها قبل خمسة قرون، ولكن الأندلس لم تكن الوطن الأصلي للعرب والمسلمين كما فلسطين للفلسطينيين بل المغرب العربي الذي أعيدوا إليه.
الزمن يجعل الحب ينقضي، ولكن الحب هنا هو حب لفلسطين المقدسة والوطن التاريخي للشعب الفلسطيني الكنعاني الذي اغتصبه اليهود مرتين؛ الأولى قبل ثلاثة آلاف سنة حين أقاموا فيه دولتي يهوذا وإسرائيل، كما تفيد التوراة التي تذكر الفلسطينيين مائة وخمسا وتعسين مرة والكنعانيين مائة وأربعا وستين مرة أصحاب الأرض الأولين في أثناء الصراع الأول على الأرض بينهما.
وعليه لا يتوقعن أحد نسيان القضية مهما طال الزمن، فإذا كان اليهود لم ينسوا السبي البابلي كما كان، يقول شمعون بيرس، فكيف ينسى الفلسطينيون التهجير واللجوء وذلهما المتراكم في بضعة عقود؟ إن العودة إلى الوطن ليست فقط حقاً مطلقاً للشعب الفلسطيني بل واجب عليه أيضاً، وإنه كلما طالت الغربة اشتد الحنين والشوق إليه وتعلقهم به، وصارت العودة إليه واجباً مقدساً لأنه لا كرامة لشعب في المنفى، ومسيرات العودة شاهد استشهادي عليه. إن يوم الزحف الجماهيري الشامل الهاجر المتزامن نحو فلسطين ومن جميع الجهات قادم لا محالة.