هل لدينا فعلاً "داعشية" في مناهجنا؟

حياة أبو السميد*

تابعت، بصفتي مسؤولة سابقة في مدرسة، النقاش الدائر حول "داعشية" المناهج والكتب المدرسية، ومدى وجود الظاهرة، كما مدى تأثيرها. فمنهم من كشف أبعاداً "داعشية" طالما عانينا من وجودها لاضطرارنا إلى تدريسها. ومنهم من سارع إلى التصريح بأن مناهجنا تعلم التفكير الناقد، وحرية التعبير والبحث... كما فعلت وزارة التربية والتعليم، في ردها على د. ذوقان عبيدات. لكن الأغرب من ذلك أن قطاعاً لا بأس به من المواطنين سارع إلى توجيه تهم الكفر والإلحاد والعلمانية. وبالمناسبة، فإن العلمانية ليست تهمة يحاسب عليها القانون.اضافة اعلان
كما لاحظت كُتاباً كبارا نحوا منحى اتهامياً، وانكروا العلاقة بين "الداعشية" وبين المناهج، على اعتبار أن لها أسبابا وعوامل عديدة؛ كالقهر والبطالة والتسلط. بل وصل الأمر ببعض الكُتاب إلى المطالبة بالتهدئة، وهذا يندرج تحت منطق اهدأوا لا تثيروهم، اتركوهم نائمين.
إن كاتبة هذا المقال ترى بوضوح:
1 - أن "الدواعش" ليسوا نائمين، وليسوا بحاجة إلى استفزاز بمقال أو حديث؛ فهم موجودون بقوة، وفي كل مكان. إنهم يعملون علانية وسراً. وهم موجودون في أفكارنا، وفي بعدنا عن التفكير المنطقي، وفي تقبلنا ما يقال من دون مناقشة خوفا من استفزازهم. إن غياب الفكر الحر والحوار والانفتاح، هو محرك للداعشية وصانعها.
2 - أن "الدواعش" موجودون في غياب مناهج الفلسفة والمنطق وأساليب البحث العلمي والاكتشاف والتجريب والتحليل.
3 - أن "الداعشية" موجودة في نظرتنا إلى الآخر المختلف دينياً أو عرقياً، أو في الجنس واللون. وهي متأصلة في بعض المناهج -سواء كانت كتباً أو طرائق تدريس أو امتحانات- أو حتى في بعض القيم التي نقلت من القالب الاجتماعي إلى المقدس.
4 - وهي أيضاً موجودة في غياب المسرح والفنون والدراما والمنطق والفلسفة، وإلاّ ما معنى أن يحتكر طرف كل الحقيقة رافضاً حقائق أخرى، بل رافضاً حتى مناقشتها.
5 - و"الداعشية" موجودة في نظام امتحاناتنا التي لم تخرج عن التعليم البنكي؛ أي إن المعلم يودع المعومات في رصيد الطالب، ثم يقوم بسحبها في نهاية العام أو نهاية الموسم، ليحاسبه عن أي نقص فيها. ناهيك عن أجواء الرعب والدرك، وتوظيف أهم مؤسسات الدولة لمساعدة الوزارة في ضبط الامتحان وتقرير المصير.
نتيجة هذه المعطيات، نصدّر ما يقارب 80 ألف طالب سنوياً ليس أمامهم سوى الشارع، لتستقطبهم منظمات إرهابية.
وبالمناسبة، من ينجح من طالباتنا وطلابنا لا يمتلك بشكل عام حق تقرير المصير؛ فالمؤسسات الرسمية تقرر له ماذا يدرس وأين يدرس، من دون أن تضمن له حق أين يعمل.
6 - "الداعشية" موجودة في النظرة إلى المرأة وحقوقها؛ فما معنى أن يقول بعض كتابنا وكثير من معلمينا -وهم بالمناسبة جزء من المنهج- إن حقوق المرأة على الزوج الإنفاق مقابل الطاعة وعدم الخروج من بيت زوجها إلا بإذنه، ولا تخرج المرأة في حالات الحريق إلا محتشمة ومن دون عطور!
7 - أيضاً، "الداعشية" موجودة في تعبئة الطالبات والطلاب بتفسيرات خاطئة حول مفهوم الجهاد، وأن عليهم أن يقاتلوا العالم كله لنشر الدعوة، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة.
8 - كذلك، هي موجودة في حشد الطلاب والطالبات ليصدروا أحكامهم وتقييمهم على الآخرين بمدى التزامهم بأحكام الشريعة. فمن يلتزم هو الإنسان الصادق الناجح الجيد. أنا لا أنكر أهمية الالتزام، لكن الاقتصار في تقييم الآخر على مدى التزامه، لا يعكس نظرة كلية إلى مسؤولية الإنسان في عمله وفكره وسلوكه.
9 - و"الداعشية" موجودة في نظرة دونية للمرأة، فهي مكملة للرجل في أفضل أحوالها؛ أي إنها جزء مضاف إلى الرجل، والرجل دائماً مضاف إليه حتى لو كان مجروراً.
إن عملية التربية عملية مجتمعية لا يجوز أن تترك لفئة ما. وإن من حق معلمينا ومعلماتنا أن يكونوا مقتنعين هم بالمنهاج أولاً، كما هو حق لأهالي الطلبة.
عودة إلى السؤال: هل المناهج هي من يخلق "داعش"؟
أنا لم أسمع أحداً قال ذلك. فأي ظاهرة أو حادثة لن ترتبط بسبب واحد. وهكذا فإن "داعش" صنيعة عوامل عديدة، كالمنهاج والبطالة والتفسيرات الخاطئة... إلخ.
إذن، هل تريدون إبقاء المناهج على حالها لأنها ليست السبب الوحيد؟ إن فكرة "داعشية" واحدة يتعلمها طفل في كتاب، قد تدمر مستقبل أمة بأكملها؛ كتعريف مفهوم الجهاد، إذا فُسَر حسب أساليب التعليم المتداولة حالياً، إذ سيخلق ألف "داعش" سنوياً.
إننا نأمل من وزارة التربية والتعليم -وهي على أبواب مؤتمر للتطوير الشامل- أن تصلح ما استطاعت، بدلاً من سياسة الدفاع والغرور والاتهام! والهجوم المضاد.
- إننا بحاجة إلى مناهج متكاملة، تضم أبرز المواد التي تنمّي العاطفة والإحساس، كما تنمي العقل والجسد.
- إننا بحاجة إلى خريجين يمتلكون ذكاءً عاطفياً وذكاءً اجتماعياً، كما يمتلكون الذكاء العقلي والرقمي والمنطقي. نعم، الذكاءات متعددة، ومنها الذكاء الموسيقي؛ هذا ما تقوله النظريات العلمية الحديثة في الذكاء.
- إننا بحاجة إلى خريجين قادرين على احترام الآخر والثقة به.
- إننا بحاجة إلى خريجين يكافحون من أجل حقوق الانسان والديمقراطية والمواطنة، لا خريجين يقاتلون بالسلاح.
- إننا بحاجة إلى مفكرين ناقدين، لا سلبيين متلقين.
- إننا بحاجة إلى خلق نظام تعليمي يحاكي اليابانيين في التنظيم والالتزام.
- إننا بحاجة إلى تطوير المفاهيم الدينية لتصلح لهذا الزمان، لا أن نعود 1400 عام إلى الوراء (فما يزال يدرس بأن صوت المرأة عورة، في حين أنها أصبحت تتبوأ أعلى المناصب القيادية في العصر الحديث).

*مديرة مدرسة سابقا