هل لدينا متسع للمثقف العضوي؟

كتب الصحفي والشاعر البولندي ريزارد كابوتنسكي ذات مرة: "ذهبت من ثورة إلى انقلاب، إلى دولة. ومن حرب إلى أخرى. وهكذا، شاهدت التاريخ وهو يُصنع... لكنني اندهشت أيضاً: فأنا لم أشاهد كُتّاباً، ولم ألتق أبداً بشاعر أو فيلسوف –بل ولا حتى عالم اجتماع. أين هم؟! ثم عدت إلى أوروبا، ووجدتهم. كانوا في المنزل، يكتبون قصصهم المحلية الصغيرة... نفس القصص التي كنا نقرأها المرة بعد المرة منذ ألف عام".
رّبما كتب كابوتنسكي هذا لأنّه كان مُراسلاً صحفياً، تتيح له مهنته التجوال بعيداً عن البيت. لكنّه طور مع ذلك نظرة في أدوار المثقف الذي ينبغي أن يكون متواجداً في قلب حادثة التغيير، وفي كل مكان. وفي الوقت نفسه، يطرح توصيفه للكتّاب المنزليين وقصصهم المحليّة المُعادة أسئلة عن ماهيّة النتاج المُجدي في العملية الثقافية، والذي يُمكن أن يُحدث فرقاً. وكثيراً ما يقع الذين لهم نصيب من الاشتغال بالثقافة في غابة من الأسئلة حول ما يكتبون، وإلى من يتوجهون، وأيّ معسكر يختارون، وكيف يوفقون بينَ المبدأ والمنتج، وغير ذلك.
بالنسبة للبعض، يكون الأمر محسوماً حين تكون الثقافة عملاً، وظيفة. وفي هذه الحالة، يقدم المثقف خدماته لصاحب العمل بالشكل الذي يرُضي ربّ عمله وبشروط المؤسسة. وفي بعض الأحيان، يكون المثقف مخلصاً لعقيدة سكونية متزمتة، يعتنقها بلا أسئلة، فيظل يعيد قصته ويرتاح. لكنّ هناك في المقابل المثقف القلِق، المشتبك على جبهة الرضى عن الذات في جانب، وعلى جبهة التفاعل مع الناس بشكل يخدم الناس في الجانب الآخر. هؤلاء، يكون في أذهانهم شيء قريب من فكرة أنطونيو غرامشي عن "المثقف العضوي" بشكل أو بآخر، ولا يحبّون أن يكونوا من كتاب وفلاسفة وشعراء كابوتنسكي المنزليين.
لكن تعريف الفيلسوف الإيطالي المناضل غرامشي، للمثقف العضوي يحدث ارتباكاً حتى عند المثقفين حسني النية. وبشكل عام، يفهم المعظم المثقف العضوي، حسب غرامشي، على أنه المرتبط بقضايا الجماهير الكادحة وهمومها، والذي لا يتعامل مع القضايا الحياتية العادية من موقف التعالي. وبشكل أو بآخر، يندر أن يكون من المثقفين من لا يرى نفسه الأكثر حكمة والأدقّ تشخيصاً والأصلب نضالاً! أما الناجون القليلون، فربما يكونون من التصنيف الذي يسميه إدوارد سعيد "المثقف الهاوي". وتوحي التسمية بأنّ هذا المثقف لا تخالطه الأوهام بأنّه احترف، فأصبح يمتلك الرواية النهائية المطلقة. وبذلك، تجعله حالة الاستنطاق المستمرة والمراجعات الذاتية المستمرة في حالة قلق، وتقلل من جرأته على إعلان استنتاجاته. ويشكل هذا التردد في ذاته تناقضاً مع تعريف المثقف العضوي الذي لا بدّ أن يكون تأثيره واضحاً في الحراكات الجماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يواجه المثقف الساعي إلى تجسيد موقف "المثقف العضوي" مشكلة الإغواء البشري الطبيعي باختيار الأسهل. وفي هذا الاتجاه، تعمل "سلطة الثقافة" التي يمتلكها على إقناعه بالانحياز إلى السلطات الراسخة الأخرى، سواء سلطة العقائد والأعراف السائدة، أو السلطات السياسية صاحبة الهيبة، أو السلطة النخبويّة صاحبة الامتيازات التي تشترط المصادرة على حريّاته الأساسية في اختيار الموقف الشخصي. وفي الغالب، يختار بعض المثقفين موقفاً وسطيّاً يمكن أن يحقق تصالحاً مقبولاً في نظرهم بين عضوية الجماهير وعضوية السلطات، هو موقف المعارضة من داخل السلطة. وضمن هذا الشرط، يبدو هؤلاء في عين الناس منحازين إلى النّاس، لأنّهم يعرضون مواقف مطلبية. لكنّ أطروحاتهم لا تمسّ في الغالب البنى الأساسية والخطوط الحمراء الموضوعة لضبط حدود حالة "التعددية" التي تضمن دوام السلطة.
من تجربة غرامشي نفسه، الذي كتب أفكاره بعنوان "دفاتر السجن" لأنّه كان مسجوناً لسنوات؛ ومن تجربة إدوارد سعيد الذي تعرض لحملات المقاطعة والتشهير المستمرة، وللمراقبة الدائمة من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، يمكن استنتاج أنّ المثقف العضوي، أو الهاوي، لا يتمتع بحياة مستقرة. وفي مجتمعاتنا الحالية الاستبدادية بإفراط، سيعني اختيار المثقف أن يكون عضوياً، أن يكون في السجن، أو أنْ يُحاصر في سبل عيشه، أو أن يُكتم صوته ولا تُتاح له سبل الاتصال على أقل تقدير. وهذا الوضع الصعب، هو المعيار النهائي لتقدير اقترابنا من مثقف غرامشي، والذي يجعلنا غالباً، مثقفين "منزليين".

اضافة اعلان

 

[email protected]