هل نحن في "ذروة أميركا"؟

الرئيس الصيني شي جين بينغ يتحدث في مجلس الشيوخ في مدريد مؤخراً – (أرشيفية)
الرئيس الصيني شي جين بينغ يتحدث في مجلس الشيوخ في مدريد مؤخراً – (أرشيفية)

فريد زكريا – (الواشنطن بوست) 29/11/2018

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

عقدت قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين في وقت ما تزال فيه الولايات المتحدة تقف في مركز العالم. فالاقتصاد الأميركي مزدهر، والدولار قادر على كل شيء، وما تزال شركات التكنولوجيا الأميركية تهيمن على الاقتصاد الرقمي الجديد، ويبقى الجيش الأميركي سيد الأرض والسماء والبحر الذي لا نظير له. لكن هناك قوى تعمل على تقويض هذه الهيمنة، سواء على المدى القصير أو الطويل.
كما أشار روشير شارما من مؤسسة مورغان ستانلي، يبدو الاقتصاد العالمي كما لو أنه يشهد الآن "ذروة أميركا". فقد تفوقت الأسهم الأميركية في الأداء على بقية العالم في هذا العقد، ونادراً ما يستمر هذا النوع من الاتجاهات. ويعيش الانتعاش الحالي ثاني أطول فترة في التاريخ، وقد أصبح حدوث انكماش اقتصادي مستحقا. وأسعار الفائدة ترتفع، ونمو أرباح الشركات يتباطأ، والعجز في الميزانية آخذ في الارتفاع. وحتى الرئيس ترامب يدرك احتمال حدوث تراجع حاد، وهذا هو السبب في أنه كان يهيئ الأرضية لذلك، حيث وجه اللوم إلى الاحتياطي الفيدرالي على زيادة أسعار الفائدة.
لكن هناك حقائق هيكلية أوسع إطارا قيد العمل كذلك. فبينما تستمر الولايات المتحدة في التفوق على الاقتصادات المتقدمة الأخرى، فإن "صعود البقية" ما يزال مستمرا أيضا، حيث تنمو الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بثلاثة أضعاف وتيرة النمو في الولايات المتحدة. وقبل ربع قرن، كانت الصين تمثل أقل من 2 % من الاقتصاد العالمي. وهي تمثل اليوم 15 % منه، وحصتها في ارتفاع. وتفتخر الصين بكونها موطن تسع من أكبر 20 شركة تكنولوجيا في العالم.
هذا الواقع الاقتصادي له تأثير جيوسياسي. فالصين هي أكبر شريك تجاري للاقتصادات الرئيسية في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وهو ما يعطيها الهالة والنفوذ. وقد صُممت "مبادرة الحزام والطريق" لتوسيع نفوذ بكين عبر آسيا وما وراءها، وهو ما لا يقتصر تأثيره على خلق سوق لها فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى تزويدها مجموعة من الحلفاء والأتباع أيضاً. وقد وسعت سيطرتها على بحر الصين الجنوبي بطرق لم تتمكن لا إدارة أوباما ولا إدارة ترامب من إيقافها أو مواجهتها.
في أي مكان يذهب إليه المرء في العالم هذه الأيام، يتحدث القادة عن انسحاب الولايات المتحدة من المسرح العالمي. ويلاحظون أن هذا الاتجاه بدأ قبل قدوم ترامب. ويحيله المعظم إلى فترة ما بعد حرب العراق، والتي امتدت طوال فترات إدارات جورج دبليو بوش، وباراك أوباما، والآن ترامب. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب عدوانية في سياساتها، وخاصة في مجال التجارة، فإن هذه السياسيات كلها تبقى في خدمة عقلية "قلعة أميركا" التي تسعى إلى قدر أقل من المشاركة مع العالم، سياسيا واقتصاديا.
كما يشير الزعماء الأجانب أيضاً إلى أن الولايات المتحدة سوف تصبح مقيدة بشكل متزايد على الأرجح بسبب مشاكل الميزانية المتصاعدة. وتشير جيليان تيت في صحيفة "فاينانشال تايمز" إلى أن الحكومة الأميركية تنفق الآن 1.4 مليار دولار في اليوم على ديونها، أي عشرة أضعاف ما تنفقه الدولة الصناعية الكبرى التالية. ومع ارتفاع معدلات الفائدة وتزايد عدد الأميركيين الذين بلغوا سن الاستفادة من الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، لن تتمكن الحكومة الفيدرالية من تمويل الكثير من الأمور الأخرى. وقال عزرا كلاين أن الحكومة الأميركية هي "تكتل تأمين يحميه جيش كبير وقوي"، وتصبح هذه المقولة أكثر صدقاً كل يوم.
لن ينتج عن هذا الانسحاب الأميركي عالم أفضل. ويغلب أن يكون هذا العالَم أكثر فوضى وقبحا. وحتى يحصل المرء على فكرة عما يمكن أن يحدث، ما عليه سوى أن ينظر إلى حال الشرق الأوسط اليوم. فمع انسحاب الولايات المتحدة من دورها التقليدي كجهة وساطة في المنطقة – والتي تقوم بالحفاظ على العلاقات مع جميع الأطراف وتسعى إلى تحقيق قدر من الاستقرار- أصبحت إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية تتنافس على النفوذ. وقامت الولايات المتحدة ببساطة بتفويض سياستها من الباطن إلى بعض حلفائها في المنطقة، مشجعة سلوكهم الطائش وخوضهم الحروب التي تؤدي إلى أخطر الأزمات الإنسانية في العالم؛ حيث يقف 12 مليون شخص على حافة المجاعة.
في وقت تتكثف فيه قوى الفوضى وفقدان الطاقة، وبينما تواجه الولايات المتحدة قيودا حقيقية على ما يمكنها أن تفعله دوليا، فإن الاستراتيجية الأكثر حكمة ستكون دعم المؤسسات والمعايير الدولية التي بنتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، للحفاظ على درجة من الاستقرار والنظام والحفاظ على المصالح والقيم الأميركية وتوسيعها. ولن تأتي أذكى طريقة لتقييد الصين من انتهاج سياسة احتواء مباشرة، بل من سياسة صارمة تجبر بكين على البقاء متداخلة ومتعالقة مع المجتمع الدولي. وتدرك الصين ذلك وتحاول جاهدة أن تحرر نفسها من الجماعات متعددة الأطراف، مفضلة التعامل مباشرة مع الدول، حيث تتفوق في التعاملات الثنائية على شريكها التفاوضي.
ومع ذلك، لا شيء ينعش إدارة ترامب وينشطها أكثر من معارضتها للتعددية من أي نوع. وهكذا، مع تزايد الفوضى في العالم، تتآكل القوى التي يمكن أن توفر النظام. وكما هو الحال غالباً، فإن الصين ببساطة تراقب بهدوء وتكتنز المكاسب.

اضافة اعلان

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Are we at ‘peak America’?