هل نصفق لوزير المالية بعد سنوات

في كل مرة يُطرح فيها السؤال عن أسباب المديونية، تكون الإجابة الرسمية الجاهزة؛ إنها الكهرباء وانقطاع الغاز المصري. وذلك كسبيل لإغلاق النقاش.
لكن الأرقام تقول، ببساطة، عكس ذلك. إذ بلغت المديونية العامة 25 مليار دينار، فيما تقدر مديونية شركة الكهرباء الوطنية، حتى تاريخه، بنحو 5.5 مليار دينار؛ أي حوالي خُمس مديونية المملكة فقط.اضافة اعلان
صحيح، طبعاً، أن زيادة المديونية ترتبط في جزء منها بالأزمة المزمنة في قطاع الطاقة؛ بعدم وجود مصدر محلي للطاقة. لكن هناك أيضا أسباب أخرى لهذه الزيادة، تتعلق بإدارة الحكومات العشوائية للموارد، لاسيما التوسع في إنفاق المال العام، خلال العقد الماضي خصوصاً، بشكل خطير. إذ توسعت الحكومات في الإنفاق بشكل غير مدروس في فترة ما قبل اللجوء السوري، واستمرت بالنهج ذاته عقب ذلك، لأسباب مختلفة.
قيمة الإنفاق العام مسألة تحتاج دائما أن نتوقف عندها ونذكّر بها؛ إذ من كان يتخيل أن تزيد النفقات من أقل من 5 مليارات دينار سنويا، ليبلغ حجمها اليوم نحو 10 مليارات دينار؟!
وليت الإنفاق كان رأسمالياً! لكنّا جنينا نموا أفضل. لكنه اتجه إلى النفقات الجارية التي باتت تُثقل الموازنة العامة وتعاظم أزمتها. إذ تشكل النفقات الجارية الآن حوالي 85 % من إجمالي حجم الموازنة العامة، منها حوالي ملياري دينار سنويا لتغطية تبعات الدين؛ من أقساط وفوائد.
هنا يظهر اللجوء السوري وتبعاته على الخزينة، كجزء من المشكلة. إذ يُنفق الأردن على الأشقاء السوريين مبالغ طائلة لم يقم مجتمع المانحين بتعويضنا عنها، بل على العكس؛ فما يزال ما يوفره المانحون لا يشكل سوى جزء ضئيل من قيمة العبء الذي تتحمله المملكة، وفي وقت تتقلص فيه الحلول الممكنة لضبط النفقات.
هكذا، تكون واضحة نتائج السياسات الحكومية والظروف الموضوعية السلبية؛ مديونية عامة ضخمة خطرة، وصلت إلى 94 % من الناتج المحلي الإجمالي. وهي نسبة أعلى بكثير من تلك المسموح بها لدولة مثل الأردن. ولذلك نرى صندوق النقد الدولي مُصراً على تخفيضها كشرط لإبرام برنامج ائتمان جديد مع المملكة للسنوات الثلاث المقبلة.
وكسبيل لضبط الدين، طالب "الصندوق" بتمكين "الكهرباء الوطنية" من البقاء ضمن وضع مالي يجنبها مزيدا من الخسائر المالية، كما يسهم في تخفيض القروض المالية التي ترتبت على الشركة خلال الأعوام الماضية، والبالغ قيمتها حوالي 5.5 مليار دينار. لكن الخلاف بين الحكومة و"الصندوق" يتمحور حول آلية تحقيق ذلك.
إذ طالبت المؤسسة الدولية بزيادة تعرفة الكهرباء. وهو الأمر الذي تراجعت الحكومة عن قبولها به بعد التوجيهات العليا بذلك. ومن ثم دخلت الحكومة في مفاوضات شرسة مع "الصندوق" لضمان عدم زيادة المديونية، لكن ليس من بوابة رفع أسعار الكهرباء والمياه، أو المواد الغذائية المدعومة، لاسيما الخبز.
الخلاصة، بعد استعراض الأسباب ومعاينة التحليلات، هي أنه صحيح أن دين "الكهرباء" عال، لكنه ليس السبب الوحيد للمديونية العامة الخطيرة. ولذلك، فإن الالتزام بشروط "الصندوق" بعدم زيادة الدين العام خلال العام الحالي مقارنة بالعام الماضي، هو مصلحة أردنية، تماماً كما أنه مصلحة وطنية أيضاً فرض المؤسسة الدولية مطلب تخفيض هذا الدين عن مستواه الحالي بنسبة 25 %، حتى لا يبقى هذا المؤشر يتنامى إلى مستويات تهدد الاستقرار المالي والنقدي.
ولأن كل من يدرك تبعاتها المرعبة، يعرف أن المديونية هي أكبر تحد يواجه أي حكومة؛ فيكون صحيحاً بالتالي اعتبار المديونية هي "العقدة" كما يقال.
ولدى وزارة المالية الكثير من المشكلات؛ تبدأ من عجز الموازنة، وتمر بتراجع الإيرادات، ومحاولات إنجاح ضبط النفقات، وغيرها. وهذه كلها تحتاج وقتاً طويلاً للعلاج. وليكون من الإنصاف التأكيد أنه يكفي وزير المالية وضع خطته لضبط المديونية والشروع في تنفيذها؛ وبما يمثل بحد ذاته منجزاً يستحق الوزير التصفيق عليه، ولو بعد سنوات من الآن، إن نجح في ذلك.