هل يكفي الوازع الديني للوقاية من الجريمة والانحراف؟

في تفسير الجريمة والانحراف المتطورين والمطردين في المجتمعات المسلمة؛ العربية وغير العربية، يسارع رجال الدين المسلمون إلى نسبتها لضعف الوازع الديني عند المجرمين والمنحرفين. لكنهم لو يتريثون فلربما وجدوا أن كثيرا من المجرمين والمنحرفين يؤدون الفرائض ويلتزمون بالسنن، ولكنهم مع هذا يجرمون وينحرفون.اضافة اعلان
لو تريثوا أكثر، لوجدوا أننا نعيش في أقوى صحوة دينية إسلامية في التاريخ الإسلامي؛ فالجوامع لا تحصى وتغص بالمصلين، وبخاصة في يوم الجمعة؛ والمراكز والجمعيات والجماعات الدينية والتعليم الديني في الروضة والمدرسة والجامعة، والإذاعات والقنوات الفضائية والإنترنت والكتب والنشرات... تضخ الثقافة الدينية على مدار الساعة، وقوافل الحج والعمرة في ازدياد... فلو تريثوا لاكتشفوا أننا اليوم نعيش أقرب إلى الدين منه في أي وقت مضى منذ وفاة الرسول وعهد الراشدين، أفبعد ذلك ينسبون الجريمة وينسبون الانحراف إلى ضعف الوازع الديني، أم إلى فشل هذا الوازع في منع الجريمة والانحراف؟
إن معنى ذلك أن هذه الصحوة فاشلة، وأن المسؤولية تقع على مصادرها ومعلميها وأساتذتها ورموزها في جعل هذا الوازع فاعلا. ومع تقديرنا لحسن نية القائلين بنسبة الجريمة والانحراف إلى ضعف الوازع الديني، وتقديسنا للدين، إلا أن هذا التفسير لا يكفي لنسبة الجريمة والانحراف إلى ضعف الوازع الديني، فالجرائم تقع كل يوم، والانحراف في ازدياد.
الحقيقة المُرّة التي يجب على رجال الدين ومن في حكمهم، في المدرسة والجامعة والإعلام، أن يعوها، هي أنهم هم أيضا يشجعون من حيث لا يدرون على انتشار الجريمة والانحراف بتلك الفتاوى التي تغفر للمجرمين والمنحرفين ذنوبهم بمجرد الاستغفار عددا من المرات، أو بقراءة آية أو سورة من القرآن الكريم. فإذا كان الأمر كذلك، فإنهم هم الذين يفرغون الوازع الديني من معناه وتأثيره، وإلا لماذا لا نسمع منهم تحذيرا يوميا من هذه الفتاوى أو الأحاديث التي تنسب إلى الرسول الكريم، ولماذا لا يقاومونها؟ إنهم بالعكس يتبارون بالمزيد منها، وبطبعها ونشرها وتوزيعها في كل مناسبة لتعم الفائدة.
في مقال للأستاذ إبراهيم غرايبة في "الغد" (بتاريخ 13 /6 /2014)، أنه "رأى طالبا ذا لحية طويلة يغش في امتحانات الجامعة، فصرخ غاضبا عليه: أنت عيب عليك وحرام! ترك الطالب القاعة وجاءه إلى المكتب ليوضح له أن "الغش ليس حراما. هات دليلك على أن الغش "حرام". وهدده وطلب منه أن يحترم نفسه لأنه قال إن الغش حرام".
المطلوب من الأسرة والمدرسة والجامعة والجامع والإعلام، إضافة شيء من القطران إلى الوازع الديني، وهو هنا تنشئة وتربية وتعليم وقدوة تجعل الضمير أو الالتزام الأخلاقي عضويا، أي مصدرا للمناعة الأخلاقية؛ فلا يرتكب المرء الجريمة أو ينحرف لأن الرقيب حاضر، أو لأنه عاجز صحيا (مثلا)، أو لأن الفرصة غير متاحة. إنه لا يفعل مع أن الرقيب غائب والفرصة متاحة، والقدرة على الفعل موجودة. وهو لا يفعل ذلك تجنبا للعقاب أو طلبا للثواب، بل لأنه ملتزم بقيم أخلاقية راقية مهما كانت الظروف أو التحديات والنتائج مغرية؛ إنها المناعة الأخلاقية، وإلا فإن المرء سرعان ما يسقط بالإغراء أو بغياب الرقيب.