هل يوجد حقا طريق ثالث؟

في محاضرته في المعهد الدبلوماسي، والتي قدم الزميل محمد أبو رمّان تلخيصا لها في عدد الأمس من "الغد"، يتبنى رئيس الوزراء السابق د. معروف البخيت الطريق الثالث في الحديث عن النهج الاقتصادي الذي يراه للأردن.

اضافة اعلان

والطريق الثالث تعبير يتكرر كبديل كلما اشتد مأزق التجاذب بين خيارين أو طريقين، وقد لا يعني شيئا غير الرغبة في عدم الانحياز لأي منهما من دون أن يمثل نهجا محددا أو معروفا سلفا. لكن في موضوعنا، فالطريق الثالث ليس تعبيرا طارئا، انه مدرسة معروفة في الاقتصاد السياسي يمثلها خط الديمقراطية الاجتماعية. والحقيقة أنني سبق وسمعت من الرئيس البخيت أنه يصنّف نفسه من أنصار هذا الخط، وهو بعد في موقعه رئيسا للوزراء.

وقد مثلت هذا الخط الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي تناوبت على الحكم مع الأحزاب المحافظة والليبرالية في جميع الدول الأوروبية تقريبا، وحققت ذروة المجد لهذا النهج ببناء نموذج دولة الرفاه في دول شمال أوروبا خصوصا، حيث أمكن المزاوجة الى أقصى حدّ بين الديمقراطية والحريّة من جهة والدور الاقتصادي -  الاجتماعي للدولة التي ضمنت المواطن من المهد الى اللحد بالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية والتقاعد.

هذا النموذج وصل ذروة النجاح في الستينات والسبيعنات وشكّل بديلا لنموذجي الاشتراكية الشمولية والرأسمالية الليبرالية، لكن هذا النموذج دخل أيضا في أزمة مع تضخم مسؤوليات الدولة وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها في نفس الوقت الذي ظهرت فيه التاتشرية طليعة خط تصفية القطاع العام والخصخصة وتقليص دور الدولة الاجتماعي. وفي مطلع التسعينات انهار المعسكر الشيوعي وحققت الليبرالية الرأسمالية نصرها الشامل بالتزامن مع نهوض الاقتصاد الرقمي ودخول عصر العولمة.

لم يعد التمسك بالدور القديم للدولة محتملا في العصر الجديد ومع نهاية الألفية الثانية دخل خطّ الديمقراطية الاجتماعية في مراجعة ذاتية، وهو يتكيف مع الحقبة الجديدة التي شهدت اختفاء القطاع العام وضمور دور القوى الاجتماعية التقليدية، مثل النقابات العمّالية وظهور مفهوم اقتصاد المعرفة.

لم تعد الرأسمالية واقتصاد السوق موضع نقاش، وبقي السؤال كيف يمكن التمايز عن خط اليمين الرأسمالي بالنسبة لقوى تريد البقاء على التزامها بالعدالة الاجتماعية وبمصالح الفئات الشعبية، وقد نُشرت بعض المراجعات التي تقترح طريقا ثالثا بين خط الديمقراطية الاشتراكية القديم وخط اليمين الرأسمالي، وجوهر الطرح هو الأخذ بالميزات غير القابلة للنقاش للرأسمالية الحديثة مع الالتزام بحق المجتع عبر أداته المفوضة أي الدولة في التدخل لصالح الأفراد والفئات التي تحتاج هذا التدخل بالنظر أن تمركز الثروة يحقق تمركز السلطة ويهدد الديمقراطية والسلم الاجتماعي، ويحتمل التجاوز على الحق والعدالة.

وظهرت تعابير لتمثيل هذا الخط مثل "اقتصاد السوق الاجتماعي"، ويمكن القول إن هذا الخط ما يزال قيد التبلور في الممارسة العملية، ويحصل الآن على تزكية من حقيقة اتساع الفجوة بين الفقر والغنى وعدم انعكاس النمو على الرفاه العام للمجتمع.

من يتحمس لـ"الطريق الثالث" يستطيع أن يرى في تطورات السنين الأخيرة ما يزكي وجهة نظره وخصوصا بالنسبة لبلد كالأردن. لكن وجهة النظر هذه ما تزال تفتقر الى التقديم منهجيا وهي تضيع بين خطوط التماس والتجاذب اليومي حول السياسات المعتمدة وبين الخطاب الحكومي والخطاب المعارض. لهذه الغاية تتبلور هذه الأيام فكرة انشاء "المنتدى الديمقراطي الاجتماعي" كمنبر سياسي فكري يقدم هذا الخط ويقيس نفسه باشتقاق وجهة نظر حول القضايا المختلفة.

[email protected]