هويات..!

علاء الدين أبو زينة- تُعتبر الهوية شيئًا من متعلقات الوجود الأساسية، قريبًا من الهواء والماء والغذاء. وعندما تتعرض الهوية للتهديد، يدافع المرء عنها حتى بحياته نفسها. وتخوض الشعوب صراعات وجودية من أجل عدم محو هوياتها وإخراجها من التاريخ. وبذلك، تنطوي الهوية على عنصر حياة بقدر ما تنطوي على عنصر فناء. وفي الحقيقة، يمكن تعقب الهوية في مركز كل أنواع المنافسات، والصراعات، والحروب والمذابح. والهوية مفهوم مركب بالغ التعقيد. إنها مجموع هويات تستوجب التوفيق بينها. ثمة الهوية الفردية، والقومية، والقُطرية، والعقائدية، والعرقية، والإثنية، والجندرية، والحضارية، والثقافية، والقبَلية، والطائفية، والأخلاقية، والمزيد. ويبدو أن البشرية لا تميل إلى إبراز الهويات الجامعة، مثل الانتماء إلى الجنس البشري الذي تكمن مصلحة بقائه في السلام والتعاون وحفظ بيئة الكوكب، وإنما تميل إلى التقسيم حتى أصغر الوحدات. والقصد هو تعظيم الحصة الفئوية على حساب الفئات الأخرى. وبذلك يسود التنافس والتدافع الخبرة البشرية، ويعاني أفرادها من مختلف أنواع الأزمات وعدم الاستقرار. على المستوى الفردي، يؤدي اضطراب الهوية من أي مستوى إلى الاعتلال النفسي، والخلل السلوكي، والإرهاق الذهني وإرباك الخيارات وتأزيم العلاقات. وعلى المستوى الجمعي، تكمن الهوية وراء الحروب الكبيرة، والصغيرة، والبينية والأهلية. وتُستخدم الهوية كصرخة تحشيد، وذريعة للإقصاء والإبادة والترويع والرفض العنيد لصاحب الهوية الأخرى. من سوء الحظ أن منطقتنا تعاني بشدة في الفترات الأخيرة من اضطرابات الهوية. وتصيب هذه الاضطرابات مختلف المستويات، من الهوية القومية، إلى العقائدية، إلى القطرية والوطنية. ثمة تشويهات عميقة تصيب مفهوم القومية العربية، حيث يتم التغاضي عن كل العناصر التي تشكل الأمة، والتي يمكن الاستفادة منها لإبراز مشترك يتم استغلاله على أساس مصلحة الجميع. وفي وقت تحشد فيه الأمم على مشتركات اللغة أو الجغرافيا أو العقيدة أو التاريخ، يجري تأكيد القُطريات التي صنعها الاستعمار لغايات واضحة، بحيث تزعم كل دولة عربية بأنها أُمة قائمة بذاتها. ونتيجة ذلك هي التنافس وهدر الإمكانيات والتدخلات المميتة في القطر الآخر، لمصلحة كل القوى المنافسة المتشبثة بالقومية في المنطقة، والأخرى الساعية إلى الهيمنة في العالم. يؤكد تجاهل الهوية الجامعة على الهويات الدينية المختلفة في منطقة كانت معروفة بالتسامح مع الأقليات الدينية على أساس الاشتراك في الثقافة والتاريخ والعادات والتقاليد والانتماء الوطني. وبالإضافة إلى ذلك، عاثت قسمة سني/ شيعي فساداً في المنطقة وشتتت إمكانياتها ووصلت القسمة حد الاستهداف بالقتل. وهكذا، استجابت المنطقة بلا وعي لقاعدة «فرق تسد» الاستعمارية: قم بإبراز أي فروقات صغيرة في الهوية واختلق لها مبررات وسيتكفل الأغبياء بتصفية إضفاء أنفسهم لتتنكب ظهورهم بلا عناء. وحتى مواطنيك، ذكرهم بالفروقات وأكد على وجود هويات حتى لا يتفقوا عليك وتستطيع أن تحكمهم. وهذه الوصفة غبية بقدر ما هي انتحارية، حيث تنطوي على إمكانية التفجير في أي وقت. في منطقتنا يتجلى أيضًا واحد من أكبر صراعات الهوية في العصر الحديث: الصراع العربي-الصهيوني، أو انسجاماً مع اتجاه تضييق الهوية السائد؛ الفلسطيني-الصهيوني. وفي هذا الصراع، يقيم مشروع استعماري استيطاني صريح وجوده على شرط محو هوية شعب. ويجد الفلسطينيون أنفسهم في جهد للتأكيد على كل وأصغر عنصر من عناصر الهوية، وعلى أساس المشترك الفلسطيني الجغرافي والتاريخي، لتجنب الإلغاء. ومع ذلك، يتسبب الاضطراب الشديد الذي أحدثه الاستعمار في الهوية الفلسطينية في بروز هويات تقسيمية، فصائلية، أو أيديولوجية، أو جيوسياسية، هازمة للذات وخادمة للعدو. في العموم، ما نزال نحاول أن نقرر هل نحن عرب أم مسلمون؛ سنيون أم شيعة؛ تقدميون أم رجعيون؛ أحرار أم تابعون. وهل نحن ملتزمون بالنضال من أجل المنافسة في العالم حيث نحن أم ينبغي أن نهاجر ونبحث عن الخلاص الفردي. وفي الحقيقة، ثمة الخيارات التي ينبغي أن يتجه البشر في كل مكان من أجل مستقبلهم جميعاً: التأكيد على المشتركات الإنسانية الكثيرة والإيمان بأن في الكوكب متسع للجميع. وبالنسبة لنا في المنطقة، فإن لدينا هوية كبيرة لا يصعب التجمع حولها، وتوظيفها لخدمة كل الأغراض العملية والمفيدة، هويتنا القومية التي تؤكد وحدتنا كأمة غنية بالتنوع المادي والروحي. وإذا تحقق ذلك، فإنه كفيل بأن يحل مختلف الإشكاليات وتداعياتها غير الصحية على الأقل، سواء في حياة الأفراد أو الكيانات، أو العلاقة مع بقية الهويات التي تنافسنا على أساس مشتركاتها القومية، الحقيقية أو المختلقة. المقال السابق للكاتب العقلية الصهيونية..!اضافة اعلان