هي منظومة علاقات دولية جديدة

مالك العثامنة لأن الأردن ليس خارج سياقه الإقليمي بل هو في عين عواصفه المتغيرة والتغييرية، علينا أن نستوعب المعطيات الجديدة في عالمنا الذي نعيشه، معطيات هي بطبيعتها متغيرة وقادرة على قلب خريطة العلاقات الدولية وإعادة تشكيلها بما يتوافق مع تلك المعطيات، وهذا التوافق تحركه المصالح والمصالح فقط، ولأن أزمتين عالميتين متتابعتين كشفتا لنا أن البشرية على كل تطورها المعرفي ضعيفة أمام المرض والجوع، فالمصالح لم تعد مؤسسة على رؤية ضيقة ومعلبة في حدود جغرافية وطنية، بل هي مصالح لا تكون ولا تقوم بدون تعاونيات تنموية متكاملة ومنهجية على مساحات إقليمية لا بد أن تتفق وتتوافق. أول تلك المعطيات في عالم تكنولوجيا المعلومات الذي انتهت ثورته وصار واقعا يحكم كل أشكال العلاقات بين البشر وبين الأشياء أيضا، هو في الطاقة التي لم يعد النفط محركها الرئيسي، بل صار الغاز ومجمل مصادر الطاقة البديلة كلمة السر الجديدة لفهم كل ما يحدث في العالم، العالم كله بلا استثناء، طبعا في سياق ثورة تكنولوجيا معرفية غيرت شكل العالم. مثلا وليس حصرا، كان بعض الإعلام القطري أول من نحت في أدبياته الإعلامية مصطلحات العداء لإيران في بدايات الأزمة السورية، لكن فجأة تختفي تلك المصطلحات من خطابات الإعلام القطري ومشتقاته، وتصبح إيران الحليف الأقرب لقطر حتى من باقي منظومة دول مجلس التعاون الخليجي! تلك أحد ألغاز الغاز نفسه، ففي تلك المياه الدولية في الخليج بين قطر وإيران يتم الكشف عن حقول غاز مشتركة تنظمها قوانين البحر الدولية، وتجعل الشراكة ضرورة لا خيارا في أحد أكبر مصادر الطاقة “والسيطرة” في العالم، وبحيرة الغاز الضخمة بين إيران وقطر تريليونية الإنتاج، وهو ما يضيف إلى قوة إيران الاقتصادية الكامنة تحت وطأة العقوبات الأميركية ـ الدولية قيمة كبيرة مضافة تجعل بلاد فارس قوة تتجاوز إقليمها لو تم إفلاتها من عقالها، والأفضل ضبطها ضمن “إقليم” متعاون، ولذلك حديث آخر. هذا مثال، من أمثلة كثيرة في انقلابات الحال في العلاقات الإقليمية والدولية (ولك أن تراقب السلوك السياسي التركي في العامين الأخيرين فقط!)، والمثال له خواص الغاز، يتمدد حد الترابط مع أمثلة إقليمية ودولية أخرى، في عالم متشابك جدا على مستويات عدة، وحين نتحدث عن الغاز كمحرك حيوي للعلاقات الدولية فإننا لا نحصر الفكرة بحقول الغاز وحسب، فالغاز له متطلبات حساسة وخاصة مختلفة عن النفط ليكون ذا قيمة عالمية، منها مثلا توفير بنية تحتية مرنة لنقله، وتوقيت عقود شرائه مسبقا وعلى مواعيد تسليم لا تتحمل التأخير أو التعطيل. بمعنى أكثر دقة، فإن اكتشاف الغاز لا يكفي سببا للاحتفال، فالفائدة لا تتحقق بدون أن يكون الاكتشاف مجديا وهذا لا يعني وفرة الغاز وحسب، بل توفر سوق استهلاك ومشترين وطرق نقل، وكذلك الحال في باقي مصادر الطاقة البديلة ومخرجات مشاريع الأمن الغذائي والأدوية والتكنولوجيا الحديثة. لذا، فإن شرق المتوسط الذي نشأت تحت مياهه الزرقاء بحيرات وافرة من الغاز وعلى ضفافه مصادر طاقة بديلة ضخمة، هو ميدان صراع وأزمات بدأت قبل سنوات قليلة، وستفضي بالضرورة إلى مشاريع تعاون إقليمي في المحصلة نشهد بداياتها اليوم وبهدوء منهجي شديد. (بين لبنان وإسرائيل حقول غاز بحرية ستفضي إلى ترسيم حدود معلنة قريبا). الأردن، ليس له جغرافيا مباشرة على الغاز، لكنه نقطة الوصل (ولا يمكن بأي حال إقصاؤه) في إقليم يعيد ترتيب نفسه وبتسارع مدهش، فهل هو مستعد لكل تلك الانزياحات الضخمة؟ المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان