"وإذا ذُكِرَ اللهُ وحده اشْمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة"

Untitled-1
Untitled-1

د. محمد المجالي

عجبا لأمر الكافرين بالله وباليوم الآخر، كيف يكون حالهم حين يُذكر الله تعالى، حين يقال: لا إله إلا الله، كيف تشمئز قلوبهم، كيف تنفر وتستنكر وتستكبر، وإذا ذُكِرت الآلهة التي زُعمت من دون الله، استبشروا وفرحوا وتهللت وجوههم بالرضى، يؤلمهم توحيده، ويُفرِحهم الشرك به، هكذا هي الحقيقة عند من تمردوا على فطرتهم، وأنكروا ما ينبغي أن تقودهم إليه العقول السليمة، وما يصح في منطق الأشياء، فله سبحانه في كل شيء آية تدل على أنه واحد، ولكنها الغشاوة على الأبصار، والختم على السمع والقلوب، واتباع الشهوات، والجحود لأمر واضح لا لبس فيه، وصدق الله: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا".اضافة اعلان
هذه الآية من سورة الزمر ذات التركيز الشديد على موضوع العقيدة، وبالذات الإيمان بالله واحدا ينبغي التوجه إليه وحده، والإيمان باليوم الآخر مآلا للجميع، حيث يساق الذين كفروا إلى جهنم زمرا، ويساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، وشتان بين حاليهما.
وفي سياق هذه الآية، فقد ذكر الله إنزاله للقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بالحق، فمن يهتدي فلنفسه، ومن ضل فيتحمل مسؤولية نفسه، فالقرآن واضح الرسالة، وزادها النبي صلى الله عليه وسلم وضوحا، وترك أمته على مثل بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك، وكل واحد يتحمل مسؤولية نفسه، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والله يتوفى نفس كل واحد منا حين ينام، فيقبض روح من شاء، ويرسل النفس مرة أخرى لمن لم يشأ أن يقبض روحه، إلى أجل مسمى، وإلا فكلنا راحلون، وهنا ينكر الله على المشركين اتخاذهم شفعاء وآلهة من دون الله، وهؤلاء لا يملكون شيئا، ولا يعقلون، بل الشفاعة والعبودية هي لله وحده سبحانه، وإليه المرجع والمآل، فهل من يخلق كمن لا يخلق!؟
هنا تأتي هذه الآية في وصف حال هؤلاء، حين يُذكر الله وحده تشمئز قلوبهم وتستنكر، وحين يُذكَر الذين من دونه، وإذا بهؤلاء يستبشرون، وهناك في الآخرة سيكون الندم، حين يتمنى هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم لو يفتدوا من العذاب، ولو كان لأحدهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب، حين تظهر لهم الحقائق، ويروا ما لم يكونوا قد حسبوا له حسابه، حيث اليوم الآخر الذي لطالما أنكروه، فهم الآن مبعوثون محشورون محاسبون، فويل ثم ويل لمن أنكر وتاه ولعب والتهى، فوعد الله حق.
عجيب حال بعض الناس، كيف يناقض فطرته التي تدله على الله، ولكنه يغطيها فلا ترى إلا الشهوات، تناديه فطرته أحيانا، فالله سبحانه من رحمته لا يدع الإنسان ونفسه، بل يهيئ له من الأحوال ما يذكّره بالله، نصيحة من هنا أو هناك، أو حدثٌ ما يذكّره بربه، أو ربما رؤيا يراها، أو فتنة لعلها تلين قلبه، ومع ذلك يصر على موقفه، ويركب بحر شهواته، وينكر اللهَ واليومَ الآخر، فهذا إن عذبه الله فلا يلومن إلا نفسه، حين يبقى تائها لاهثا وراء شهواته المادية والمعنوية معا، لا يعجبه الحق في عبادة الله، ولا أن يتذكر الآخرة فتنغص عليه أحواله، فهؤلاء إذا ذُكِرَ اللهُ وحده تشمئز قلوبهم، وإذا ذُكر أي شيء من دونه يستبشرون.
ومظاهر هذه الحالة كثيرة حتى في دائرة وجود الإيمان عند العبد، ولكنه إيمان هش بسيط معلق بالمصالح، فالمصالح مقدمة عليه، فلا أثر حقيقيا للإيمان على النفس خضوعا وخشوعا، فهؤلاء في مهب الريح، ربما يتذكرون الله قليلا، ولكنهم يتذكرون مصالحهم وشهواتهم كثيرا، ولا يجدون لأنفسهم حلا إلا ركوب أهوائهم وشهواتهم.
ما أكثر أنواع الشرك بالله هذه الأيام، شعرنا بها أم لم نشعر، ولكنه شرك دون شرك؛ هناك من يؤثِر مصالح الدنيا على الآخرة، يجامل على حساب الدين، يُرضي مسؤولا بغض النظر عن درجة مسؤوليته أكثر مما يرضي اللهَ تعالى، أو تتعرّضُ له شهوةٌ أو إغراءٌ فلا يحسب لله ولا للآخرة حسابا، أو يحرص على مال بغض النظر عن مصدره ووسيلة كسبه، ولا يحسب لله واليوم الآخر حسابا، أو ربما يخون زوجته، أو تخونه زوجته، ولا يتذكر الله ولا اليوم الآخر، ربما يزني أو يسرق أو يقتل أو يظلم أو ييأس من الله وحاله فينتحر، وهكذا في المظاهر كلها.
كثيرا ما نسمع عن أشخاص لا يريدون سماع من يذكّرهم بالله واليوم الآخر، يهربون من هذا الواقع، لا يرغب إلا بالعيش في أجواء الفجور واللهو، يتهم الناصح له بأنه ينغص عليه عيشه، وينكد عليه متعته، فلو طُلِب منه أن يصلي أو يخشى الله لانزعج وتكدّرت حاله، ولو طُلِبت منه مشاركة في أمر سوء، أو مجلس سوء لاستبشر وانتبه، وربما يفتي لك بأن الحياة هكذا وهكذا، جد ولهو، ولكن هؤلاء في الغالب لا يعرفون إلا اللهو، ولا يخالط الإيمانُ الحقيقيُّ بشاشةَ قلوبهم، ولا يُرى النور في وجوههم.
نعيش في زمن الملهيات على اختلاف أنواعها، ولا أبالغ إن قلت إن هناك أصناما جديدة تشغل أوقات الناس واهتماماتهم، هي هذه الأجهزة التي بين أيديهم يستخدمونها في غير مسارها الصحيح، تلهيهم عن الله وواجباتهم الدينية والدنيوية معا، فلا بد من ضبط العلاقة معها، ولا بد من مراجعة الحال كله مع الله تعالى، وتذكّر اليوم الآخر وأهواله، وأننا ما خُلِقنا عبثا، والعمر محدود، والكل فقير إلى رحمة الله وتوفيقه، فلنكن كما يحب ربنا ويرضى، فنسعد ويرضى عنا.