"وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون"

أسامة شحادة*

سبحان الله! ما تزال الأيام والأحداث تكشف عظمة القرآن الكريم، وأنه يعالج أحوال البشرية ومشاكلها في كل أزمانها؛ الماضية والحاضرة والمستقبلية، لأنه كلام ووحي العليم الخبير سبحانه وتعالى. لكن في كل زمان يخرج علينا من يزعم الإصلاح والخير، وهو في حقيقته مفسد، فحذار حذار من هؤلاء.اضافة اعلان
ففي خضم وحدة الأردنيين الجامعة ضد الغلو والتطرف اللذين تمثلا بجريمة تنظيم "داعش" الإرهابي بحق الطيار معاذ الكساسبة، رحمه الله، خرجت علينا أصوات نشاز تدعي حرب الإرهاب والتصدي للتطرف، لكنها في حقيقتها تسعى إلى استغلال الفاجعة لتمرير أجندات منحرفة، تعادي الإسلام وشعائره وأحكامه.
فعدا عن أن البعض غير مؤهل لتمييز الصواب من الخطأ في الأحكام الشرعية، فإنه يظل اختيارا شخصيا الالتزام الشرعي بعدم الاختلاط بين الطلبة، لاسيما في كليات الشريعة. فهؤلاء الطلبة ما جاؤوا إلا لتعلّم الشريعة وتطبيقها. ويبدو أن الوقت لم يعد بعيدا لمثل هؤلاء أن يجاهروا بطلب إقامة الصلاة بشكل مختلط، أو أن تؤم المرأة وتخطب بالمصلين، كما فعلت بعض النساء في العالم، من دون اعتبار لاحترام الشريعة الإسلامية. وذلك لأنهم يريدون تطويع الإسلام لأهوائهم، وتشكيله بحسب رؤيتهم لحقوق المرأة، والتي تقوم في حقيقتها على تسهيل استغلال المرأة من قبل الطامعين والجشعين.
وبرغم أن هؤلاء يتشدقون بالتخصصية في تناول القضايا واحترام التقاليد الراسخة للقضاء أو الإعلام، إلا أنهم لا يبالون باحترام خصوصية الشريعة الإسلامية وسننها وآدابها، لأنهم لا يحترمونها أصلاً، وأجندتهم هي في حربها والتخلص منها.    
وقد أصاب رئيس الجامعة الأردنية د. إخليف الطراونة كبد الحقيقة حين رد على أحد تلك الأصوات بقوله: "ولكنني وجدت ما كنا نحذر منه منذ فترة طويلة وهو أن يتسابق الإعلام لدينا إلى تعزيز فكر وأهداف الدواعش، وما يسعون له من بث سمومهم وأفكارهم الهدامة في مجتمعنا الطيب".
ومن المزاعم التي تم ترديدها في صحفنا وإعلامنا، أن بيان شيخ الأزهر بوجوب معاقبة المجرمين الدواعش بحد الحرابة، هو دعوة للبربرية والوحشية وتكريس لفكر "داعش"! وأن هذا يدل على تطرف الأزهر وفكره، ولا بد من إعادة تأهيله ليتماشى مع العصر الحاضر! فأصبح شيخ الأزهر عند هؤلاء متطرفا لا يختلف عن "داعش"، لأنه يطالب بتطبيق شرع الله عز وجل! ولا أدري كيف يراد أن نعاقب المجرمين من الدواعش؟ هل نقوم بالعفو عنهم، أو نسجنهم ونرعاهم ونوفر لهم صالة رياضية وتلفازا ووجبات ساخنة، حتى ندخل العالم المتحضر؟!
ولا أدري إن كان إعدام ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي قد أزعج هؤلاء أيضاً، لأنهم قد يكونون ضد عقوبة الإعدام، وكانوا يودون أن تبقى الريشاوي والكربولي يتمتعان بدفء السجن وخدماته الغذائية والصحية، كما يحدث منذ عقد من السنوات تقريباً، فيما المئات من الأيتام والفقراء في قرانا ومخيماتنا يتضورون جوعاً، ويتمنون وجبة فيها قطعة لحم أو دجاج أو طَبقاً ساخناً في الشتاء، أو تدفئة وسقفا يحميهم من البرد، لكنهم لم يحصلوا عليه. هل تعلمون أن كلفة كل نزيل سجن على الخزينة ودافعي الضرائب الذين هم نحن، تبلغ 700 دينار شهريا؟! تصوروا معي أن لجان الزكاة مشكورة تقدم دعما لليتيم شهريا لا يتجاوز 35 ديناراً! فكم يتيما نرعى بكلفة سجين مجرم؟ وأحسبوا كم تكبدنا برعاية هؤلاء المجرمين طيلة إيقاف عقوبة الإعدام.
إن تطبيق الأحكام الشرعية كجزء من تطبيق الشريعة، والذي يقوم على إداء الأمانة وإقامة العدل أولاً، ثم معاقبة الجاني بالعقوبة الصحيحة والرادعة له وللمجتمع، هو بوابة الخروج من ظلمات الظلم والفساد.
الأعجب من هذا أن دعوات القتل الإجرامية والعدوانية التي يطلقها مثل بشار الأسد ضد شعبه الأعزل، بمختلف الأسلحة بما فيها الكيماوية، وآخرها مجازر دوما التي فتك فيها بالمئات من الأطفال والنساء، لا تحرك شعرة في بدن بعض هذه الفئة، كما دعوات القتل الهمجية عبر فضائيات عربية ضد خصوم السلطات، لا تجرح مشاعرهم؛ فهل لأنهم لا يرون خصومهم الإسلاميين من البشر مثلاً، بينما هم حريصون على حياة الدواعش الذين عرقلوا الثورة السورية وأنقذوا بشار الأسد من القصاص العادل، حتى يكملوا المشوار بالقضاء على كامل الثورة السورية والوجود السُنّي في سورية والعراق، وتبقى في يدهم فزاعة "داعش" يحاربون بها الإسلام نفسه في دول الجوار؟
أيضاً، قام أحدهم بالتغريد عبر "تويتر" محرضاً على حرق كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. وواضح أن هناك من يستحثه لذلك من جماعة عدوانية تشتهر بالتكفير والإيذاء للخصوم. وتلقفت الدعوة مجموعات شيعية من خارج الأردن أعادت نشرها، مع صور لحرق كتب زعمت أنها كتب ابن تيمية، وأن ذلك وقع في الزرقاء. ثم تبين أن ذلك كذب وتزوير، وأن الحادثة وقعت في موريتانيا، وأن الحرق تم لبعض كتب المذهب المالكي على خلفية اعتراضات جماعة متطرفة علمانية ضد بعض الأحكام الشرعية بخصوص المرأة، لكنها عادت واعتذرت عن جريمة حرق الكتب.
وهذا العداء لابن تيمية لأنه شكل -حيّاً وميتاً- حائط صد منيعاً أمام أعداء الإسلام من الداخل والخارج، فأصبح الأعداء الصرحاء يبحثون عن أي مثلبة ضده. والأعداء الخفيون كداعش يسعون بالتزوير والكذب إلى ستر جرائمهم وخاصة جريمتهم بحق طيارنا معاذ بكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية.
والسبب الذي حدا بداعش للتغطي بكلام ابن تيمية، أن السلفيين المتصدرين للتحذير من "داعش" وبيان عوارها، عمدة كلامهم هو تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، فأراد "داعش" تأليب الناس عليه، وعلى السلفيين، وذلك في دليل جديد على حقيقة البوصلة الداعشية، وأنها تخدم جهة واحدة فقط هي: المحور الطائفي بقيادة إيران.
ولكنهم كانوا كاذبين في الاستدلال بكلام ابن تيمية من جهة التلاعب بالكلام؛ بحذف بعضه مما يخرب عليهم، ومن جهة أنه لم يكن يتكلم أصلاً في عقوبة حرق أسير حي، فمن كذب على الناس ويفاوضهم لفك سراح معاذ وهو كان قد قُتل، كيف لا يكذب على ابن تيمية ليبرر جريمته؟!
ولكن لما كان الجهل والانتقاء وانعدام الأمانة خلقا في "داعش"، فإن هؤلاء المدّعين محاربة التنظيم وهم إنما يحاربون الإسلام نفسه، يتصفون بنفس الصفات، فلا تثبت في موقف ابن تيمية أولاً، بل تسليم لفكر "داعش"، ثم معالجة التطرف بالتطرف والإقصاء والحرق لكتبه، بينما العقل والمنطق يوجبان التثبت أولاً، ثم جدلاً؛ لو كان هذا قول ابن تيمية فهل هذا منهج متبع عند أتباع ابن تيمية، بحيث يهدر كل علم ابن تيمية من أجل مسألة، وهي مسألة لا يعمل بها أتباعه، وهذا على فرض قوله بها؟!
وقد أسقط في يد هؤلاء الحاقدين حين تصدى لهم وزير الأوقاف د. هايل عبدالحفيظ، محذرا من الانسياق خلف "داعش" التي تلاعبت بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن الإساءة له ولبقية العلماء الثقات هو دعم لنهج "داعش". 
كذلك، لا يمكن اتهام مراكز تحفيظ القرآن الكريم، بالمسؤولية عن التطرف من دون بينة أو دليل. بل إن كل الدراسات الجادة تؤكد أن الفساد السياسي والاقتصادي، وانعكاساته الاجتماعية، هي مصدر التطرف؛ وأن سجون الطغاة وظلمهم هما مصنع التطرف. فمصطفى شكري، زعيم جماعة التكفير والهجرة، هو نتاج طغيان وظلم سجون عبدالناصر، ثم صدّر تطرفه لعدد من الدول. كما أن سجون الحكومة العراقية الطائفية بعد الاحتلال الأميركي، هي التي أنتجت عشرات بل مئات وألوف المتطرفين الذين كان أبو بكر البغدادي ورفقاؤه في قيادة "داعش" من سكانها. ولعل رواية "فرانكشتاين" العراقية تكشف جانبا من هذا الدور الرسمي الطائفي الخبيث في صناعة "داعش".
ويكفي أن نتأمل في كون الشباب التونسي هو أكثر الدواعش العرب تطرفاً وعدداً، برغم أنه نتاج نظام علماني متطرف وليس نتاج جماعات إسلامية، وكذلك الدواعش القادمون من الدول الغربية هم نتاج الثقافة الغربية وليس الجماعات أو المراكز الإسلامية!   
إن مقاومة التطرف والغلو، والذي حذرنا منه مراراً وتكراراً منذ سنوات طويلة، لا يكون إلا بمنظومة متكاملة؛ أمنية وسياسية واقتصادية وفكرية، ترسي العدل والرحمة والعقل والحكمة والتزام محكمات الشريعة. أما علاج التطرف -المنسوب للإسلام والمدعوم سراً وجهراً من أعداء الإسلام- بالتطرف العلماني، فهو وصفة مثالية للخراب والدمار.

*كاتب أردني