"وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"

د. تمام السيد

دعيت يوم السبت 1 /8 /2015، إلى محاضرة الندوة الشهرية التي تقيمها الجمعية الأردنية لإعجاز القرآن والسنة، بالتعاون مع نقابة المهندسين، وكانت بعنوان "وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"؛ قدمتها اختصاصية في طب العيون. وقد استهواني عنوان المحاضرة، وكنت أتطلع إلى سماع شيء علمي جديد في هذا الموضوع. اضافة اعلان
وقفت المحاضرة على هذه الآية مفسّرة إياها بفقد يعقوب عليه السلام بصره. وهذا القول في الحقيقة لا خلاف عليه عند العلماء والمفسرين، فمنهم من قال "ابيضت عيناه" أي: انمحق سوادهما وبُدّل بياضاً من بكائه، وقيل: لم يبصر بهما، وأنه عمي. ومنهم من قال: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم.
ولا خلاف على أنّ عيني يعقوب عليه السلام ابيضتا من الحزن. والحزن هو الألم الشديد على شيء عزيز. وقد بدأ حزن يعقوب عليه السلام منذ أرسل يوسفَ مع إخوته -بطلب منهم- (يرتع ويلعب)، فكان رد يعقوب عليهم: "إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ". ولفظة "ليحزنني" فعل مضارع يدل على الاستمرار، فهو يحزن على ما يتوقعه من غياب يوسف؛ وقد كان. ولذلك عندما ذهب إخوة يوسف إلى مصر بعد سنين طلباً للمعونة بسبب القحط، وأخذوا أخاهم بنيامين، وعادوا من دونه بسبب تهمة سرقة صواع الملك (وكلنا قرأ سورة يوسف ويعرف قصته)، ابيضت عينا يعقوب من الحزن الطويل الدفين؛ فالحزن كما يقول الفخر الرازي في كتابه "مفاتيح الغيب" (م12، ج24، ص194): "غمّ يلحق المرء بسبب مكروه حصل في الماضي". فقد نزلت بيعقوب طاقة من الهم لفقده يوسف، فحزن حزناً طويلاً استمر أكثر من ثلاثين عاماً (إنه ليحزنني)، تبعتها طاقة أخرى من الهم بعد سنين لفقد ابنه الآخر بنيامين شبيه يوسف، فحزن حزنا شديداً، فابيضت عيناه، كناية عن فقد البصر. وعلمياً، يعرف الأطباء أن العين يصيبها الماء الأبيض، إذ إن الحزن الشديد أو الفرح الشديد يسبب زيادة في هرمون الأدرينالين وهو مضاد لهرمون الأنسولين، مما يؤدي إلى زيادة في سكر الدم، يُحدِث غباشاً أو تعتيماً في العين، فيضعف البصر. وإذا زاد من دون علاج، يفقد المرء بصره مع الزمن. لكن اليوم صار يمكن للأطباء معالجة ذلك، فهو ليس مرضاً عضوياً مستعصياً.
إن ما استوقفني في محاضرة هذه الندوة، تفسير سبب عودة بصر يعقوب عليه السلام، حين قال عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: "اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا". فقميص يوسف عليه السلام -كما ترى الدكتورة المحاضِرة- كان مصنوعاً من وبر الجمل، وأنّ فيه أشواكاً. فلما ألقي القميص على وجهه، مسحت تلك الأشواك وأزالت ما في عينيه من قذى. وقد فسرت الدكتورة كلمة "ألقى" بمعنى: رضخ.
لقد وقفت على كتب التفسير، فما وجدت أحداً من السابقين ولا أحداً من اللاحقين قال بأن قميص يوسف عليه السلام كان مصنوعاً من وبر الجمل! ولو كان هذا صحيحاً، فلمَ لم يثبته العلم للآن؟! وبالعودة إلى معاجم اللغة، فإن رضخ تعني: ضربه ودقّه بقوة وكسره. فكيف يمكن القول بأن ألقاه هي بمعنى رضخ، وهل يعقل أن يفسر قوله تعالى بهذا؟! فالعبرة ليس بما كان مصنوعاً ذلك القميص، وإنما في أنه قميص يوسف، الذي فيه ريحه وأثره. فـ"من" في قوله تعالى: "وابيضت عيناه من الحزن" سببية؛ إذ إن الحزن يسبب الأمراض، من سكري وضغط وأمراض العيون وغيرها، وهذه حقيقة علمية وصحية. والإنسان إذا ما فتئ يبكي ويحزن، يذوب جسده، وينفطر قلبه، وتبيض عيناه، فخرجت "مِنْ" هنا عن معناها اللغوي الحقيقي الذي هو ابتداء الزمان والمكان، إلى معنى السببية المفهوم من السياق.
وعليه أقول: إن الصدمة النفسية الحزينة التي تعرّض لها يعقوب عليه السلام، بفقده يوسف، واستمرار تلك الصدمة إلى أن أتته صدمة أخرى حزينة بفقد ابنه الآخر بنيامين، ففقد بصره، كانت تلك الصدمة الحزينة بحاجة إلى صدمة نفسية سعيدة، كي تعيد له بصره. وتلك الصدمة السعيدة لا يمكن أن يتحملها يعقوب عليه السلام دفعة واحدة؛ فالإنسان لا يتحمل الصدمات المفاجئة أياً كانت، وهذا معروف في علم النفس. فإلقاء الخبر (فرحاً أو حزناً) على الإنسان بالتدريج، يجعل انفعالاته وردود أفعاله متزنة طبيعية، بعيدة عن السلبية التي قد تؤدي إلى نتائج معاكسة. وعليه، كان إبلاغ الخبر يعقوب متدرجاً؛ فكانت الإشارة الأولى منه سبحانه أن ألقى في روع يعقوب عليه السلام فكرة عودة يوسف، فقال عليه السلام: "إني لأجد ريح يوسف"، حيث قرّب إليه سبحانه وتعالى الفكرة. فإذا ما جاء إخوة يوسف وألقوا عليه قميصه، ارتد بصيراً.
نحن لا ننكر قضايا العلم، لكن أود القول إنه ليس من الضروري أن نفسر آيات مثل هذه الآية تفسيراً علمياً، بل نفسرها تفسيراً ربانياً، أي منطلقاً من الإيمان بقدرة الله ومشيئته وحكمته، في أن تكون هذه معجزة من معجزاته ليوسف ويعقوب عليهما السلام، بأسباب معينة، قد يكون أثر يوسف في القميص، من عرق أو غيره، لكن بإرادة الله لا ريب. وتماماً كما كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه بإذن الله، فكذلك عاد بصر يعقوب -بإذن الله- بإلقاء قميص يوسف الذي فيه أثره على وجه يعقوب، فهذه معجزة خاصة ليوسف وأبيه. وتماماً أيضا مثلما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم عينيّ عليّ رضي الله عنه -يوم خيبر- وقد أصابهما الرمد، فكان أن ذهب الرمد منهما، فهذه معجزة من معجزاته عليه السلام، فلا يمكن لأي شخص أن يمسح في عيني أرمد فيذهب الرمد منهما، كذلك كان قميص يوسف معجزة في عودة بصر يعقوب، فهو ليس كأي قميص.
الكلام كثير، لكني أود هنا أن أشكر الجمعية الأردنية لإعجاز القرآن والسنة على هذه الندوات الشهرية. وأتمنى عليها أن تستقطب دوماً من يتصدى للإعجاز ممن هو أهله؛ من أهل اللغة والعلم وإعجاز القرآن والسنة، الذين يتعمقون في كتاب الله، ويقدمون كلاماً جديداً في دلالات القرآن، ويزيدون الناس علماً بإعجازه.