واجعلوا بيوتكم قبلة

يغلب على كلمة "بيت" في القرآن الكريم أنها تأتي بمعنى المسجد؛ "فليعبدوا رب هذا البيت"، "فمن حج البيت أو اعتمر". وعندما جاءت بمعنى "الإقامة"، فإنها تحتمل المكان أو الإقامة أو البلدة، أكثر مما تحتمل المعنى الغالب في استخدام الكلمة اليوم. وجاءت أيضا بمعنى "أسرة"؛ وآل البيت هم أهل الرسول وأهل إبراهيم. ويوجد في بلاد الشام عدد كبير من القرى تبدأ بكلمة "بيت"؛ بيت إيدس، بيت لحم، بيت إيل (الله)، وهي تسميات سريانية تعني الإقامة. وتتخذ دور العبادة المسيحية أحيانا اسم "دير"، وهي تعني أصلا في السريانية البلدة أو مكان الإقامة، وما نزال نستخدم في العربية كلمة "ديرة". ووردت في الإنجيل أسماء قرى عدة تبدأ بـ"بيت"، منها "بيت صيدا" التي يقول شراح الإنجيل إنها في شرق الأردن؛ و"بيت صور" نسبة إلى الإله صور أو بمعنى الصخر، وربما تكون وادي السير تحريفا لكلمة صور!اضافة اعلان
والشاهد في هذه المقدمة أن البيوت في فكرتها وتسميتها محملة بالقداسة والأهمية الجوهرية في الفكر والحياة، كما التخطيط والعناية؛ فالبيوت لها منزلة مستمدة من منزلة المعبد والمدينة والعائلة أو الذات.. أنت بيتك، نحن بيوتنا.. وعندما طلب الله من بني إسرائيل أن يتخذوا بيوتهم قبلة، فقد أعطاها منزلة المسجد المركزي الذي تتجه نحوه كل المساجد؛ ما يعني بالضرورة أن تمنح البيوت في تخطيطها وتصميمها واحترامها وتقاليدها ووظيفتها ما يمنح لمكان العبادة.
والبيت بمفهومه فنا وجمالا، يجب أن ينقل -في تصميمه وطبيعته- الفكرة الأساسية التي نراها للبيت؛ يجب أن يعكس المفهوم والرؤية اللذين نحملهما تجاه أنفسنا وبيوتنا. بل إن تصميم البيت، كما الفن، يجب أن يكون أكثر وضوحا وتجلية للفكرة؛ فقد تكون في أذهاننا مجردة أو مشوشة، فيحولها البيت إلى تعبير حسي واضح.
يقول هيغل إن الهندسة المعمارية هي أول تحقيق للفنّ، وما تفعله هو أنها تنشئ هيكلا يليق بالله، حتى وهي تشيد الأماكن المسورة لأجل الاجتماعات الحميمة أو الملاذ من العواصف والمطر والوحوش، إنها تظهر إرادة الوجود، وتسبغ عليه شكلا خارجيا ومنظورا. ولو تأملنا عبارة "بيت الله"، فسنجد أننا نتحدث كيف نشيد البناء الذي يعبر عن اللامتناهي واللائق بغايته الحقيقية. ويكتسب الشكل الخارجي (البناء) مضمونا روحيا، أو هي (الهندسة المعمارية) تعبير حسي عن مشاعر وأفكار روحية.. كما لو أنها تجلت في مظهر حسّي.. هو البيت!
وهكذا تمنحنا العمارة (كما الشعر والموسيقى) فكرة كافية (ربما) لنفهم المضمون والقيم والأفكار التي تحرك المجتمعات وتوجهها. ولو أردت أن أشكل نظرة عامة لمواطن مشارك في الحياة العامة، فإنني أستدل بحال العمارة والشعر والموسيقى لدينا، وأستعين بها في الفهم والتحليل للتشكلات القائمة اليوم في المجتمعات والأعمال والمدن والأسواق. ويمكن بها أيضا استنتاج مواطِن كثيرة من الخلل، وربما تساعد في فهم القوة والضعف والعنف الكامن.. وما نملك من الجمال والذوق.