وانتصرت غزة

بكل المقاييس، هو انتصار للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، تحقق بعد الصمود الأسطوري في قطاع غزة على مدى خمسين يوما من العدوان الإسرائيلي، بأبشع الأسلحة وأكثرها فتكا ودمارا.اضافة اعلان
والانتصار يقاس أيضا، ليس فقط بهذا الصمود وانصهار المقاومة في غزة بالحاضنة الشعبية، من مختلف التوجهات السياسية والفكرية، التي ألقت بكل خلافاتها وتناقضاتها جانبا، أمام تحدي العدوان الصهيوني الفاشي، بل هو انتصار أيضا بقدرة المقاومة وتمكنها حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت إعلان الهدنة والاتفاق على الورقة المصرية مساء أول من أمس، من مواصلة دكّ مناطق ومدن الاحتلال الاسرائيلي في عقر داره، بالصواريخ والقذائف، رافعة من الكلفة على العدو، لتواصل عدوانه، ومفشلة هدف عمليته الإجرامية المعلن، بحماية "أراضيه" المحتلة من صواريخ المقاومة.
نعم، دفع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ثمنا غاليا، من دماء أبنائه وشهدائه، وخلف العدوان وراءه دمارا شاملا في المساكن والمصانع والبنى التحتية، ومشردا عشرات الآلاف من بيوتهم، لكن الحرب والعدوان لم يخترهما الشعب الفلسطيني، ولا مقاومته البطلة، بل فرضا عليهما، كما فرضا في حروب واعتداءات عديدة سابقة، بل وما تزال مفروضة بأبشع الصور، عبر تكريس الاحتلال والاستيطان للقدس والضفة الغربية، ومواصلة حرب التجويع والحصار على قطاع غزة، ورفض الامتثال للشرعية الدولية بالتسليم بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
يحق للشعب الفلسطيني ولمقاومته الاحتفال بالنصر، وبرضوخ اسرائيل ويمينها التلمودي الحاكم، والقبول بالاتفاق والهدنة، وتسليم العدو بعدم القدرة على الدخول في حرب استنزاف مع المقاومة في غزة. وقد ضربت نتيجة هذا العدوان استراتيجية العدو الاسرائيلي في الصميم، فكل هذه الصواريخ والقنابل والدمار، واستنفار جيش الاحتلال ومجتمعه لكل طاقاته، وبتوفر الدعم الاميركي الكامل، لم تمكن اسرائيل من تحقيق الردع للمقاومة، التي بقيت حتى اللحظة الاخيرة من العدوان تدك مستوطنات ومدن اسرائيل بالصواريخ، وتسقط بين سكانها وجيشها الخسائر البشرية والنفسية والمادية.
راهن الكثيرون، غير اسرائيل، على هزيمة المقاومة في هذه الحرب، وهو ما وفر حاضنة سياسية للعدوان، الا ان الحصيلة، رغم اتساع تضحياتها وكلفها، جاءت مغايرة لما راهنوا عليه، حيث خرجت المقاومة أكثر قوة ووهجا، وحظيت بالتفاف شعبي في داخل وخارج غزة، وفتحت نافذة لرفع الحصارعن القطاع، والأهم من ذلك أنها كسرت بصمودها وقدرتها على الردع، قواعد اللعبة السياسية بين الشعب الفلسطيني واسرائيل.
وهذا البعد الأخير، كسر قواعد اللعبة مع اسرائيل، التي ضاعفت خلال السنوات القليلة الأخيرة من حربها الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس، وابتلاع المزيد من الأراضي المحتلة، والتهرب من استحقاقات الحل للقضية الفلسطينية، ما يعني أنه بات أمام الأطماع الاسرائيلية وغرور القوة التي تتمتع بها، تحديدا أمام الانكفاء العربي عن إسناد الشعب الفلسطيني ولو بالحدود الدنيا، مقاومة شديدة عصية على الانكسار، يحضنها شعب فلسطيني قادرعلى التضحية والصمود، وليس وراءه الكثير ليخسره، إن لم تعد له حقوقه الوطنية، ونال دولته المستقلة.
رغم ذلك، فإن النصر الفلسطيني الذي سطّرته ملحمة الصمود والمقاومة في غزة، هو نصر مفتوح على أكثر من احتمال وتطور، فإما مزيد من الانقسام والتشرذم في الجهود الوطنية، ما يحول النصر إلى هزيمة، وإما استثمار النصر بمزيد من تصليب الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإعادة اللحمة بين شطري الوطن المحتل، الضفة الغربية وغزة، مع تطوير استراتيجية فلسطينية وطنية للمقاومة والتصدي للاحتلال بكل السبل والوسائل، من دون استبعاد لأي خيار، سياسي أو شعبي أو عسكري، في هذه الاستراتيجية، ورفع كلفة مواصلة الاحتلال على اسرائيل، وصولا إلى تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، برحيل الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة.