وثيقة العلويين!

قدّم من وصفتهم شبكة "بي. بي. سي" البريطانية بـ"زعماء من الطائفة العلوية"، أمس، وثيقة على درجة كبيرة من الأهمية، وإن كانت جاءت متأخرة؛ يحاولون فيها النأي بأنفسهم عن المجازر التي يقوم بها نظام الأسد، ويؤكّدون على أنّهم يؤمنون بدولة ديمقراطية علمانية يتعايش فيها أبناء الطوائف والأديان المختلفة جنباً إلى جنب.اضافة اعلان
ما تسرّب من الوثيقة، التي حصلت عليها "بي. بي. سي"، يتضمن "نصّاً" محبوكاً متقدّماً في فهم ما يجري على الساحة السورية والإقليمية، مع تغليب مشاعر الكراهية الطائفية. إذ يرفض الموقعون وصف العلويين بالشيعة، ويقولون إنّهم يمثّلون "نموذجاً ثالثاً" داخل الإسلام؛ ويتحدثون عن أصول عقائدهم، ومن ثم عن رؤيتهم للنظام السياسي الذي تتأسس شرعيته على "الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان"، ويصرّون على إيمانهم بقيم الحرية والمواطنة والمساواة.
بالطبع، لا يكفي هذا المقال القصير لقراءة مضمون النص وأبعاده ودلالاته السياسية. لكنّ من الضروري أن نتأكّد، أولاً، من حجم تأثير هذه المجموعة من الزعماء. وثانياً، أهمية التوقيت، الذي -غالباً- له علاقة بالعملية السياسية الحالية، وسيناريوهات مصير الأسد، وتحرير العلاقة بين العلويين والنظام السوري الحالي من أجل فضّ "المصير الواحد"، والانفتاح على المجتمع الدولي والقوى الكبرى، لتقديم "ضمانات" للطائفة العلوية لمرحلة "ما بعد الأسد".
بالرغم مما يمكن أن يقال، وهو صحيح، بأنّ هذه الوثيقة تأخرت كثيراً، وبأنّ النظام اعتمد -بدرجة كبيرة- على "أبناء الطائفة" في القيام بما قام به من فظائع؛ إلا أنّ هذه الوثيقة مهمة وتاريخية، وتستدعي، في المقابل، خطاباً تاريخياً على السويّة نفسها من زعماء الطوائف والأديان الأخرى في سورية، إذا أردنا أن ننظر إلى المستقبل لا إلى الماضي، وأن تعود الثورة السورية إلى مبادئها الأساسية التي قامت عليها من أجل الديمقراطية والحرية والمواطنة والعدالة، لا ما وصلت إليه مجموعة من الفصائل النافذة على الأرض اليوم من خطاب أيديولوجي يتناقض مع المبادئ نفسها.
من الضروري أن يفهم الجميع مخاوف الآخرين، لا فقط أن يستمعوا إلى صوت هواجسهم الداخلية وحدهم. فمثلما هناك "علويون" و"مسيحيون" مع النظام، هناك "سُنّة" معه أيضاً؛ ومثلما هناك غضب من استغلال النظام للطائفة من أجل البقاء والاستمرار، فإنّ فصائل المعارضة، ذات الأغلبية السُنّية، لم تقدّم خطاباً آخر يعطي ضمانات حقيقية للعلويين، منذ البداية، ولم ينفتحوا عليهم، بل حتى المعارضة حسبت "الطائفة" منذ البداية على الأسد ونظامه.
ثمّ إنّ هذا البيان الذي أطلق عليه الزعماء الموصوفون مصطلح "بيان الهوية"، يعيد التأكيد على صحّة الفرضيات التي تحدثنا عنها سابقاً، وتقوم على عدم وجود رضا تامّ من قبل أبناء الطائفة العلوية عن غزو حزب الله وإيران لسورية، ومحاولتهما فرض عقائدهما الدينية والأيديولوجية حتى على أبناء الطائفة العلوية نفسها، التي تمتاز بدرجة كبيرة من العلمانية، بما يتناقض مع أسس "ولاية الفقيه" التي تحكم كلا من إيران وحزب الله معاً.
هي هستيريا "الصراع الهويّاتي" الوجودي تلك التي حرّكت الناس ضد بعضهم قتلاً وتعذيباً وتنكيلاً. وعنونة البيان بأنّه بيان إصلاح الهوية في مكانه؛ فالهوية إمّا أن تكون أداة قتل وكراهية وحقد متبادل ونفي للآخر، على حد وصف أمين معلوف، أو تكون وعاءً لاستيعاب التعددية والاختلافات وبناء أنظمة العيش المشترك والثراء الروحي والفكري والثقافي.