وجع في عضلة الآلة

الآلة تضجَرُ، ومن ثغرات ضيِّقة مستترة بريبةٍ كالعيوب المصنعيَّة، تُصدرُ هواء خفيفاً، وتكفُّ عن العمل، أو تحرَدُ بصيغة صريحة، وتطالبُ بطريقة ضمنية بـ”بريك الغداء”، وقد يمتدُّ الوقتُ من ساعة حتى انتهاء السيجارة، واعتدال المزاج، وربَّما تخرج من الباب الخلفيِّ المُهْمَل، وتمشي على أقدامها المتينة في شوارع فرعية خافتة الإضاءة، وتحنُّ للبكاء إذا تأخَّرَ الشتاء، أو مرَّ طفلٌ حافياً أمام عربة “البوشار”، و”شعر البنات” الطويل.اضافة اعلان
الآلة أيضاً لها كآبةٌ موسميَّة، صيفيَّة من باب التمايز عن الزملاء من الكائنات الأخرى في العمل، قد تسرقُ خطوتين على رؤوس الأصابع الناقصة من إصابات بعيدة، وفي ذروة الشُّغل يتفقَّدُها الساعي لأمر مهم فلا يجدها، ويتفهم مديرها المباشر رغبَتها السريَّة بإجراء مكالمة هاتفيَّةٍ مع آلة ارتبطت معها بصداقة قديمة، في بلد متقلِّب المناخ، قبل أن تعودَ في قافلة “المرتجع” إلى المصنع الأم، ويفرِّقهما “كفيل” يعاني في عزِّ الصيف كآبة شتوية!
تصحو الآلة متأخِّرة، قد يمرُّ النومُ عليها حتى تتمَّ حلمَها الذي يستقي مجرياته من تفكيرها النهاريِّ بالنقل إلى زاوية أخرى في المكتب، قريبة من شمس الله، بعيدة عن الهواء المصنعيِّ البارد، ربَّما تتأخَّرُ في الاستجابة لعمل مستعجل، فتتلكأ في الإضاءة إذا ضغط الموظف على زرِّ التشغيل بعصبيَّة، وأفرَغَ على جلدها الأسود حنقَ المدير عليه، يحقُّ لها، في هذه الحالة المُركَّبة، أنْ تجيبَ بنزقٍ، وتُمعنَ في التأفِّفِ من الثغرات المستترة، وألا تُديرَ خدَّها الأيسر للصفعة اليُمنى!
تصابُ كالآلات بالحُمَّى القلاعية، ولها أيضاً أعذار صحية غير مُقنِعَة مرتبطة بالآلام الشهرية المعتادة، لكنَّها تمنحها إجازة مرضيَّةً تجلس فيها وحيدةً في المخزن، أو مستلقية بخيلاء على “السقيفة”، يُصيبها الدُّوار، فتتسرَّبُ إلى “المَنْوَر”، تقفزُ من الشبَّاك المنخفض، تتكئ على عمود إنارة، تُخرج سيجارة مكسورة من جَيْبٍ خلفي، تردُّ في سرِّها شتيمة بذيئة، على من يفتقدها الآن، بدلالة الموسيقى الغريبة التي تزنُّ بما يشبه الأذن فيها، وتعود “فريش” للعمل إن اقتضت مصلحتُها، حتى لو مانَعَ التقريرُ الطبيُّ!
الآلة تُغنِّي غناء كلاسيكياً كئيباً، والآلة ترسمُ رسماً تجريدياً مُبْهماً، وتكتبُ على ورقةٍ بيضاءَ قصيدةً أهمَلَها الشاعِرُ زمناً منسيَّةً على ورقة صفراء، والآلة تحفظُ أسماءَ الأصدقاء من الكائنات الأخرى، وعناوينهم في الأزقة الضيِّقة، وأرقام هواتفهم المميَّزة، وتواريخ ميلادهم متجانسة التركيب. الآلة إذن لها قلقٌ وجوديٌّ، وحالات حزنٍ غامضة، ولها أسبابها الغريبة للفرح: العودة السريعة لعصر الخميس، الانقطاع المبرمج للكهرباء، والمباغتُ يجعلها أكثر سعادةً، إجازة الأمومة للموظفة التي تتكئ عليها بكأس “الليموناضة”، ولها ما لم يكن يوماً لها: قلقٌ وظيفيٌّ إذا لم تعد الكهرباء!
وأنا تعبْتُ كما يحقُّ لزميلتي الآلة السوداء أنْ تتعبَ، وتصابَ بتوتر في عضلة القلب، وتلفٍ في حبال الأعصاب. أحتاجُ ما تحتاجه الكائنات الأخرى التي تصغرني في الاسم الوظيفي: إصابة بالحُمّى القلاعية، وأعذارٌ صحيَّةٌ غير مقنعة، تمنحني تصريحاً مؤقتاً للنوم في الظهيرة بوضعية استلقاء متعال على “السقيفة”. أنا أيضاً أغنِّي، وأحفظ أسماء لا تدلُّ على أحدٍ، وأدوِّنُ أرقاماً خارج الخدمة، ولديَّ تاريخ مفتوح للصلاحيَّة، قبل أنْ أطلبَ شمس الله، وأنضمَّ إلى قافلة “المُرْتجعْ”!