وجع مصر

ملايين ممن شاهدوا فيديو "سائق التك تك" المصري خلال الأيام الثلاثة الماضية في الأغلب لم يتلفتوا إلى الصراع الدعائي بين جماعة الإخوان المسلمين المحظورة على الساحة المصرية والدعاية الرسمية للنظام السياسي، بل ما أوجعنا جميعا حجم الوجع المصري وعمقه الذي لم يبدأ اليوم، فقد استطاع مواطن عادي لا يبدو أنه ينتمي لأي تنظيم سياسي أو عقائدي أن يختصر أحوال مصر بعبارات قصيرة ومكثفة مملوءة بالحقائق والمعلومات والتاريخ القريب والحسرة والعاطفة والغضب.اضافة اعلان
ولكن سرعان ما تلقفت منابر دعائية معظمها مدعومة عربيا وإقليميا هذه القصة ووضعتها على أجندتها في مواجهة قاهرة المعز المنهكة بمتاعب الداخل والخارج التي لا تحصى ولا تعد، فيما سارعت الدعاية الرسمية هناك إلى تصنيف هذا المواطن الغلبان ووصمه بتهمة الإخوانية الجاهزة.
مصر بدون شك بعافية، وتعاني ميراث عقود من الفساد والاستبداد، وتعاني اليوم غياب الرؤية، ولكن الأمر الذي لا يجب أن نتجاوزه أنها تواجه حملات دعائية قاسية لم تتوقف منذ فترة يساعد ذلك أخطاء وفوضى داخلية وانكشاف اقتصادي صعب.
صحيح أن أكثر ما تحتاج إليه مصر، خلال السنوات المقبلة هو الاستقرار، لكن في الوقت نفسه فإن أي استقرار يكتفي بالقوة وحدها سيكون استقرارا هشا، ولن يأتي بالأخبار السارة للمصريين. ولعله من المفيد اليوم أن تنظر النخبة المصرية التي تقف على هوامش السلطة إلى اليوم التالي من زاوية أخرى؛ زاوية بناء دولة لكل مواطنيها، وذلك بالتخلص من الصراع على أجندات الثورات، والانتقال مباشرة إلى مسار بناء الدولة الذي من دونه لن يكتمل إثبات شرعية ما جاءت به الصناديق.
طوال نصف عقد مضى بقيت مصر تتنفس بصعوبة وتعيش بالقرب من غرفة الطوارئ  في عهدي الإخوان والعسكر على حد سواء؛ وهذا نتيجة إرث أكثر من ثلاثة عقود من الاستبداد والفساد؛ عمر التشاؤم قصير ولا يمكن أن تستمر موجة انكفاء مصر طويلا، علينا أن نقرأ شخصية مصر جيدا؛ فهذا البلد لا يشبه ممالك الصحراء ولا القوى الصاعدة الطارئة، فالشخصية المصرية تحافظ على حالة من الاندماج الاجتماعي النادر التكوين في أبعاده التاريخية والجغرافية والدينية والنفسية؛ نجدها في النزوع إلى الاستقرار والبناء والاشتباك في الوقت نفسه، في الجغرافيا تقع مصر على خاصرة الكون فهي أفريقية وآسيوية وأوروبية أيضا أنها أقرب بقعة لكل العالم، وهي تاريخيا عربية وإسلامية وفرعونية وقبطية وعثمانية وفاطمية ومملوكية وإفرنجية؛ وهي كل اولئك وكل محاولات استحواذها من طرف واحد فشلت، بل إن كل ذلك المزيج التاريخي والجغرافي نسج شخصيتها وجعلها مستهدفة.
 فهمّ مصر يبدأ من فهم القيمة العليا للتسامح في الشخصية المصرية عبر التاريخ، ومن قوة الاندماج والقرب الاجتماعي، حدث ذلك في مرات كثيرة في تاريخ هذه البلاد، وعلينا أن نراجع حوادث القرون الثلاثة الأخيرة التي اتسمت بتحولات واسعة كان العامل المشترك فيها قوة تماسك النسيج الاجتماعي المصري، الذي خلق"المصرية العميقة" وليس"الدولة العميقة" والمتمثلة في خلطة من الوطنية والقرب الثقافي والانسجام الاجتماعي الذي جعل الحراك الاجتماعي بأبعاده الطبقية والثقافية طوال القرن الماضي موجها نحو مصادر التهديد الخارجية، فيما أوجدت الدولة المصرية الحديثة والمعاصرة ومنذ محمد علي المجتمع المصري بالمفهوم العلمي والثقافي وليس المجاميع الاجتماعية كما هو الحال في معظم البلدان العربية، لذا فالمخاض لن يطول كثيرا ومع كل هذه المشاعر المتناقضة بين التشاؤم والتفاؤل بمصر القادمة، علينا الاعتراف أن ما يحدث لمصر يوجعنا، ويوجعنا بعمق.