وجهان لعملة واحدة؟

منذ الازدياد المهول في أعداد الفضائيات العربية، والانتشار الصاروخي لـ"اليوتيوب"، أي بُعَيْد دخولنا في الألفية الثالثة، طفت إلى السطح الإعلامي ظاهرة تدعو إلى القلق والدرس حقاً، يتجاور فيها التّطرّف، بنقلة "ريموت كونترول"، أو نقرة فأرة كمبيوتر، من السّلفيّة المتشدّدة، إلى مرابع الغناء والرّقص المتفلّت أحياناً كثيرة عن أي ضابط ذوقيّ أو جماليّ أو قيمةٍ عليا. اضافة اعلان
فجولة سريعة على قائمة المحطات؛ تلك التي لا يظهر عليها إلا العابسون الشاخطون الشاتمون الحانقون باسم الدين، وتلك التي لا يظهر عليها إلا خصر يتلوّى، وعريٌ رخيصٌ ليس له سبب إلا إثارة الغرائز، أو مفهوم سطحيّ للحبّ، ستوقفنا الجولة على معنيين من معاني وجودنا العربيّ، وما آلت إليه ثقافتنا من تناقض مثير للرّيبة وربما للجزع!
هذه الازدواجية الإعلامية صورة حقيقيّة للازدواجية التي تعاني منها مجتمعات باتت تسير بساقين هشتين إلى مآلات شديدة العتمة، كشفتها "الثورات" الراهنة، وطرحتها كإشكاليّة. فبين جئير الحناجر التي تشتم الليبرالية والعلمانية والمرأة والحداثة جملةً وتفصيلاً، هناك جئير الهارلم شيك الذي يتلوى على موسيقاها فتيان وشابات يغيظون أصحاب اللحى والدشاديش ومقرات الإخوان المسلمين! وهما؛ الجئيران، في ظنّي، وجهان لصورة واحدة من الاغتراب عن المعنى، وتحقيق التفاهة، والتمتّع بالزائف من الوعي والحريّة والفكر منتهي الصّلاحيّة!
فما هي هذه الحريّة في تضريج الخطاب بالدم، وتأهيله للفتك بعقول الناس وأرواحها؟ وهو الخطاب السلفيّ الذي يودّ قلبَ أمعاء التاريخ، وإعادة سرده كوثيقة لإقامة استبداد ما بعده وما قبله من استبداد! وما هي هذه الحريّة التي تقول بفلتان الذوق واسترسال الغرائز، بينما المعول في كل مكان، حتى لتحطيم الأفواه والأفكار؟! أليس الإفراط لدى هؤلاء ولدى هؤلاء ليس سوى آلية الأمم التي يختنق مصيرها، بينما أصواتها تلعلعُ، مختزلةً أفقها بنغمٍ سائحٍ أو تجهّم صحراويّ؟
ولربما أن هذا التناقض المتجاور والمتشاتم، لا المتحاور، سيُفضي إلى حالة ثالثة، لا أرى حتى الآن منها العقل الآخذ بالأسباب، ولا الوعي الذاهب في طرق الخلاص! ولربما أنه نداءُ الزيفِ لشقيقه الزيفِ، ومناجاةُ العفنِ لأخيه العفن!
ليتنا لا نفقد الأمل!.