وجوه صفراء!

لكأن مبتكرها الأول أدرك دلالتها أو بعضاً منها على الأقل، أو قاده إلى ذلك عقل باطن صادق، فكان أن اختار "الأصفر" تحديداً لوناً لرموز تعبيرية، تأخذ أشكال وجوه حزينة أو باكية؛ سعيدة أو مبتسمة؛ غاضبة وعصبية، وغيرها من تجسيدات عاطفية؛ وبما بات يذكر بـ"الابتسامة الصفراء" التي لا تنبئ بشيء من سعادة أو رضا.
قائمة طويلة من إشارات وصور نستخدمها ليل نهار على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر برامج المحادثة على الهواتف، على اعتبار أنها تعكس مشاعرنا ووجوهنا الحقيقية، فتكون معياراً أساسياً لتصديق ما نكتب.
من دون تلك الوجوه، لا تكاد تكتمل حواراتنا، أو هي تصبح جملا ناقصة، باردة جافة، بلا روح! هكذا أصبحنا نراها؛ فبعد كل كلمة، ثمة تأكيد لها بوجه "افتراضي" نعتقد أنه يناسبها، فيجعلها أكثر مصداقية!
ألسنا نستبدل وجوهنا؟
ألسنا، في كثير من الأحيان، نخدع بتلك الوجوه محادثينا، لأنها فعلا لا تعبر عن حقيقة ما نشعر به، ولا تعكس صدق مشاعرنا؟
أهم من ذلك، ألسنا نخدع أنفسنا قبل أن نخدع محاورينا؟ كم مرة أرسلنا فيها وجها ضاحكا، فيما كنا في الحقيقة نبكي بحرقة، من دون أن يشعر الطرف الآخر بنا؟!
وكم من مرة ضحكنا فعلاً، فيما كنا نتظاهر بالبكاء عبر وجوه خادعة؟! وكم أرسلنا وجوها محبة، تتوهج بمشاعر وهمية؟
أصبح حديثنا من وراء الشاشات، أسرى لتلك الوجوه "الصفراء" الباهتة والخالية من الإحساس والروح؛ أقنعة وورود مصطنعة بلا لون ولا رائحة، وهدايا وهمية لا قيمة لها.. ودموع مخفية وراء حوارات مضحكة، وابتسامات تجمّل أحزانا وراءها.. ولحظات صدق تنتابنا لوهلة عابرة، لكننا نخاف أن نصرح عنها، فنرسل بدلا منها تعبيرات تناقضها.
قائمة الرموز والوجوه تلك تتطور وتزداد وتتسع باستمرار، لكي تجاري الحياة المعاصرة وسرعتها؛ إنما غالباً بالكذب والخداع، والتصنع والتمثيل! فيما حياتنا الواقعية ليست بأحسن حال.
والوجوه الافتراضية ليست بأنقى من كثير من الوجوه والأقنعة الفعلية التي نصادفها في حياتنا اليومية باستمرار؛ حيث الكذب والتحايل والنفاق وراء وجوه تظهر الصدق والنزاهة، بما بات "ثيمة" أساسية في أيامنا، لا يستطيع كثيرون العيش من دونها.
وحتى إن حاولنا أن نكون أقرب قليلا للصدق، فإننا نلجأ للمجاملة للخروج من مآزق ومواقف كثيرة نواجهها، ونتعرض لها قولا وفعلا؛ في العمل، في المنزل، في الشارع، وفي كل مكان، لتصبح جزءا من "لباقتنا" الاجتماعية!
ذاكرتنا أصبحت مثقلة بصور وأشكال وحروف صماء خالية من المشاعر والأحاسيس. لكن المشكلة فعلاً هي أننا لم نعد نستطيع التمييز بين الوجوه الحقيقية والزائفة. وكيف نستطيع، إن كنا نعيش في عالم سكانه يمتهنون المجاملات الكاذبة، والأفراح المصطنعة، والابتسامات الصفراء، والغضب المفتعل، واللغة الجافة؟!
واقعيا، كما افتراضيا، تبقى الوجوه المزيفة تلاحقنا أينما كنا! ولعل ذلك ما يجعلنا أكثر إصراراً على مواصلة البحث عن قليل من مصداقية!

اضافة اعلان

 

alhassanFarihan@