وزارة الحُب!

 تنفستْ البلد. كانتْ أنفاسُها محبوسةً، والكلُّ مشغولٌ بفراغه ينتظرُ أنْ يملأه في "المكان المناسب". عشتُ أياما غريبة، أخرجُ صباحا فلا أجدُ منْ يردُّ على تحيتي الصباحيَّة، الناسُ يتظاهرون في الحديث المتبادل، بينما كل واحد يحدِّثُ نفسه، ويُجري حسابات بالغة التركيب، يتحسَّسُ بأثرها شريانه وقدرته على الثبات بمنسوب دم كاف لأداء القسم!

اضافة اعلان

لم أجدْ شخصا واحدا يُرحِّبُ بي "على أكمل وجه"؛ حتى عندما كنتُ أهاتفُ صديقا كان يستعجلني قول كل ما لدي دفعة واحدة، كيْ لا أشغلَ خطه، الفارغ من الرنين، وتفوته المكالمة التي تطربه، وتخبره أنه بات وزيرا كامل السيادة..، وإنْ بلا حقيبة!

وحبيبتي، أو منْ يفترض أنها كذلك، صار قلبها فاترا تجاهي، كان ينبغي أن نضع نقاطا على حروف ملتبسة في علاقتنا، لكنها طوال أيام الانتظار الصعبة كانتْ تؤجلُ لقاءنا حتى تحسم الأمور، ويحسمُ عقلها وجهة قلبها؛ فإن كانتْ هي من ركب القادمين، وأنا ممَّن تركوا حقائبهم في المحطة "السالفة"، تصبحُ عواطفي تجاهها "تصريف أعمال"!

لكنها كانت ذكية وتحسنُ اشتقاق خط الرجعة، حتى وإنْ كان في طريق من مسرب واحد؛ فتركتْ هامشا للمفاجآت التي قد تجعلُ هاتفي يرجُّ، من مكالمات مهنئة تخبرني أن عليَّ تغيير مسار طريقي اليومي بنمرة لها عينٌ حمراء تقفر الطريق من أمامها، ومن وراء ظهرها! ولهذا الاحتمال الضئيل منحتني موعدا، غريب التوقيت، في الرابعة والربع عصر "الأربعاء السعيدة" عند الدوار الرابع؛ كان الازدحام شديدا في الطرق المؤدية إلى هناك حتى أنني فكرت بالاعتذار، لكن أملا خفيفا ظل يراودني. السيارات تدور بتؤدة؛ أو هي كراسٍ موسيقية تدور لتستجيب إلى صوت يعطي إشارة للوقوف المباغتْ.. ولما انتهى الأمر عدتُ أنا وحبيبتي كما كنا "نربي الأمل"!

... تنفستْ البلد. وتوزَّعتْ الحقائب على وزراء جدد وسابقين وحاليين كالمعتاد، وعاد من تبقى شعبا بمسمّى "وزراء احتياط"!

لكن أحدا لم يلحظ أن وزارة ما يزال مكانها شاغرا، وحقيبتها جلدية ممتلئة بالرسائل غير المستوفية لتقاليد البريد البطيء. وزارة تعنى بالحب، مهمّتها أن تخلع عن 100 ألف فتاة لقب عانس، وتعينُ 100 ألف شاب على الوقوف أمامهن بهيئة عشاق وأزواج محتملين!

وزارة تزجِّي الوقت على الواقفين في طابور شديد الملل في انتظار استرداد جزء من أمل خضع لجنون الأرقام في البورصة، وزيرها لا مكتب له يمشي في الشوارع يحاذر وقوع عجل سيارته "ناقصة الأوصاف" في حفرة مقيمة في شارع طارئ!

يكون من مهمّات الوزارة إقناعُ السائقين أن ثمة حياة للناس من حقهم أن يعيشوها، وألا يتركوا بقيتها على الإسفلت دماء مهدورة، ولا ضير من أنْ تقوم الوزارة بشرح، غير مجازي، للمشاة بقصد نزار قباني البريء أن "الحب لا يقف عند الضوء الأحمر"!

الوزارة ستكون معنية تماما بتوعية جمهوري الوحدات والفيصلي أن ثمة أمورا أعقد بكثير خارج ستاد عمّان، وأن خروج أحدهم خاسرا لا يعني أن يبكي وسط شارع المدينة المختنق ويفاقمُ من أمراض المارة السريعة!

لن يكون للوزارة مقر دائم أو مؤقت؛ فقد يبتسمُ موظفوها، وهم بالأصل عمّال مياومة، في كلِّ مكان؛ ويتمنون السلامة للمريض نيابة عن الطبيب العابس، ويفكون لمراجع ضريبة الدخل الزرَّ العلوي من قميص ثمين يشي بتعلق طويل الأمد بقرض "خبيث"!

يوزعون الورود الحمراء في سوق الخضار المركزي على أنها فاكهة موسمية، وستمضي موظفة العلاقات العامة جهدا مضنيا في إقناع شاب عاطل عن العمل بأن الأحلام ممكنة التحقق على غرار "ظرف" أحمد حلمي "الطارئ"!

... ستكون للوزارة مهمة محددة، لا تتشابه مع كل الوزارات الأخرى، فقط أنْ تقنعَ الناس بمزاولة الحياة!

[email protected]