وصفات "طبيّة" في "الصحّة العقليّة والفكريّة"

د. نارت قاخون

يتميّز الإنسان عن غيره من الكائنات بـ"العقل"، لذلك وجب عليه أن يحافظ على صحّة عقله كما يحافظ على صحّة جسده، فيراعي سلامة آلة العقل بما هي عمليات تفكير، ويراعي جودة "غذائه" بما هي أفكار ومعارف، ويراعي حسن التّصرّف بما فكّر ورأى. هذا رغم أنّ الفروق بين الجسد والعقل ومحلّه الدّماغ تتضاءل كثيراً نتيجة البحث العلميّ المتقدّم، ولهذا حديث قادم. ولكن لا بأس من إشارات يُمكن لها أن تحفظ علينا صحّة عقولنا وأفكارنا.اضافة اعلان
(1) تحوّلات العقل والفكر: جوهر "إيجابيّ"، وأعراض "سلبيّة"
يقول المثل الفرنسيّ: "الأغبياء وحدهم مَن لا يغيّرون آراءهم".
إذا رأى أحدنا رأياً في مرّة أو مرّتين، فلا يلزم أن يراه مرّة ثالثة ورابعة؛ لأنّ الأسباب التي تدفع لرأي ما في المرّة الأولى أو الثانية قد تتغير، وهذا من بدهيات الرأي والفكر والعمل. لكنّ النّاس تحبّ أن تحاكم الإنسان وفق قياساتها السابقة دوماً، ولا تكون بحكمة خياط "برنارد شو" الذي كان يأخذ قياساته كلّما جاءه لتفصيل ثيابه، فالإنسان بدنياً يتغيّر من النحافة إلى السمنة، ومن السمنة إلى النحافة، وأفكاره تتغيّر بتغيّر تجربته وخبرته ومعرفته.
إذا كان الأمر كذلك، فما المطلوب من الإنسان إذ تغيّر؟
1. أن يكون متّسقاً مع نفسه، فلا يفعل ما يفعل، أو يرى ما يرى إلا ما يظنّه "أصوب الأفعال والآراء" في كلّ مرّة رأى رأياً أو فعل فعلاً. فالاتّساق والصدق يقاسان في السياق الواحد لا حين تختلف السياقات.
2. إذا كان صاحب الرأي أو الفعل متبوعاً مسموعاً، فالواجب عليه أن يبيّن حجته وبرهانه وأسبابه التي جعلته يقول بالقول الجديد، أو يفعل الفعل الجديد.
وتحوّل الفكر والرأي متى كان متّسقاً مع الأسباب الموجبة والأدلّة المُلزمة كان مظهراً من مظاهر صحّة العقل والفكر، ولكن له آفة باحتمال الخلط بينه وبين "التذبذب" و"الانتهازيّة" و"التلوّن الفكريّ"، والضابط في التفريق هو "سبب التحوّل ومقصده"، فمن كان تابعاً للحجّة والبراهين وجديدهما كان تحوّله حكمة وصحة عقليّة وفكريّة، ومَن كان تحوّله منفصلاً عن الحجّة مرتبطاً بـ"المصلحة الشخصيّة"، و"اليد" التي توزّع "الأموال والمناصب" كان تحوّلاً مَرضيّاً انتهازيّاً.
ومن الطبيعيّ أن تترافق "التحوّلات الفكريّة" التي يخوضها الإنسان والمجتمع بكثير من مظاهر القلق والاضطراب والتّطرّف والتّطرّف المضاد؛ فالطاقة الكبيرة التي ينفقها الإنسان في هذه التحوّلات تدفعه إلى المبالغة والتطرّف: المبالغة في "القيمة الإيجابيّة" لما صار إليه، والمبالغة في "القيمة السلبيّة" لما كان عليه. وبعد أن تستقرّ هذه "التحوّلات" ويحلّ "الهدوء" محلّ "النزق والاندفاع" يقلّ "سخطه" ممّا كان عليه، ويخفتُ "تعظيمه" لما صار إليه، ليبحث عن "تحوّل" جديد يجدّد له مشاعر "التفوّق" و"الانتصار" و"البطولة" التي تسببها "الانقلابات الفكريّة". وهذه "المشاعر ضروريّة" لحصول "التطوّرات الفكريّة" في حياة الإنسان والتقدّم إلى الأمام، ولكنها مرافقة لـ"الانتكاسات الفكريّة" أيضاً.
وهنا تكمن مشكلة الإنسان والمجتمع: المعايير التي تحكم مفاهيمه للتّطوّر والانتكاسة.
(2) طبيخ أمهاتنا و"الوعي النقدي"
أغلبنا يرى "طبيخ أمّه وطعامها" ألذّ طعام، والواقع أنّ نشأة هذا الوهم تعود إلى أنّ طعام أمّهاتنا هو الذي نشأنا عليه وتعوّدناه، وليس لأنّه ألذّ طعام، لذلك في الفكر والأدب والفنون علينا أن نتخلّص من وهم "تفوّق فكر الأمّ" الذي نشأنا عليه وتعوّدناه، والأمّ هنا هي المجتمع وثقافته التي نولد فيها، فإذا أردنا أن نحرّر "ذوقنا الفكريّ" من اعتلالات الذائقة الفكريّة واضطراباتها، فعلينا أن لا نتردّد في تجربة "الطعام الفكريّ" للآخرين، متجاوزين خوف تجربة المجهول، فربما كان في هذا المجهول ما هو ألذّ وأنفع من طعام أمهاتنا، لذلك أقول: يبدأ الوعيّ النقديّ عند الإنسان حين يقرّ أنّ "طعام أمّه" ليس أفضل طعام في العالم.
(3) الركض على "الممشاة": بين "اللياقة" و"الإنجاز"
كانت غاية "فيديبيدس" اليونانيّ حين انطلق من منطقة "ماراثون" راكضاً قاطعاً حوالي 40 كم "أن يصل إلى أثينا"، ويبشّرهم بانتصار اليونانيين على الفرس. وحين صار "الماراثون لعبة أولمبيّة صارت الغاية "قطع المسافة" لا الوصول إلى مكان بعينه.
وحين كان يمشي أهل القرى عشرات الكيلومترات من قراهم إلى المدن للعمل أو بيع منتجاتهم وشراء حاجاتهم كانوا يحقّقون غايات الوصول إلى هدف ما، مكان معيّن يريدونه، وكانوا يستفيدون بمشيهم رشاقة وصحة بدنيّة.
وحين اُخترعت "الممشاة" أو "جهاز المشي" (Treadmill) -وهي تعني "الحلقة المفرغة" أيضاً- صارت الغاية "المشي نفسه" دون الوصول إلى مكان ما، ودون الانتقال في المكان. وأصبحت فوائد المشي محصورة في "رشاقة الجسد وصحته".
هل يصحّ قياس هذه النماذج من المشي والركض بين غايات الانتقال الفيزيائيّ المكانيّ والحصول على الرشاقة الجسديّة مع "حركة الفكر والعقل"؟ هل غاية الحركة الفكريّة أن تصل إلى غاية ما، وتنتقل من واقع لآخر؟ أم هي مجرّد رياضة هدفها رشاقة الفكر والعقل دون الانتقال الحقيقيّ الواقعيّ؟
يمارس كثير من "مفكرينا" فعل التعقّل والتفكّر ممارسة الماشي أو الراكض فوق "الممشاة"، فيكتسب شيئاً من الرشاقة والصحة العقليّة، لكنه لا يصل إلى غاية ولا ينتقل من واقع إلى آخر.
فرق بين مَن يحتاج "الرشاقة والصحة" وقد أنجز قطع المسافات والانتقال من حال إلى حال، فأدرك غاياته أو بعضها، ومَن يحتاج "المشي والركض" لينتقل من مكان إلى مكان، وواقعنا يحتاج إلى "فيديبيدس" يقطع المسافات ليصل إلى حيث ينبغي أن نرتحل، فيرسم للساعين إلى الخروج من أزمة الزمان والمكان درباً ينتقلون به من حال إلى حال أفضل.
مهمة "المفكر الفيديبيدسي" أن يمشي ويصل ويرسم الطريق ويخبر أهله وأهل قريته صادقاً بفضائل المكان الجديد وسبل بلوغه. هذه مهمّته، أمّا أن يسير أهل قريته في الدرب التي رسم ليصلوا حيث وصل، فهذه مهمّة أهل القرية وجوابهم.
حين تكون "قريتك" مهدّدة بالطوفان والغرق، تكون ممارسة "المفكّرين" المشي على "الممشاة" خطيئة، وأكثر ما يُمكن أن تُكسبهم هي "الرشاقة واللياقة اللازمة" للهروب والنجاة الفرديّة من "الطوفان"، هذا إن استطاعوه أيضاً.
(4) في "الواقعيّة" شفاء
العالم الإنسانيّ الذي نعيشه نتيجة للقوى الكامنة في الطبيعة البشريّة، وهي بتراتبيّة: جلب "الأمن" ودفع "الخوف"، وتحقيق "المصلحة الذاتيّة" وتجنّب "الخسارة الشخصيّة"، وبلوغ "الكرامة والشرف والمجد" واجتناب "المهانة والخزي والعار".
و"الفلسفة الواقعيّة" هي التي ترى أنّ "تحسين العالم" يكون بالعمل "مع هذه القوى" وليس "ضدّها.
"الواقعيون" يدركون أنّ هذه "القوى الدافعة" في الطبيعة الإنسانيّة تؤدّي إلى عالم يقوم على "الصراع والإكراه المتواصل"، ولأنّهم يتوقّعون "الصراعات" فهم أقلّ عُرضة للمواقف "المتطرّفة" فيها، وأكثر حصانة من "إغراءاتها" بالاستجابة إلى استقطاباتها من أولئك "المثاليين" الذين يتفاجؤون بـ"الصراعات" و"دمويّة الإنسان"، وكأنّها "حالة شاذة" عن "الطبيعة الإنسانيّة"، لذلك يقعون في وهم "البطوليّة"؛ بطوليّة "القاتل" أو بطوليّة "المقتول"، أو سحر "التراجيديّا" فيقعون في أشدّ درجات الاستجابة تطرّفاً لما أنكروا "طبيعيّته" في الفعل الإنسانيّ.
ولكن لـ"الواقعيّة" آفات وأعراض جانبيّة ينبغي الانتباه إليها، فـ"الواقعيّة" أقلّ إثارة وشعريّة من "الفلسفات المثاليّة"، فتجد مقاومةً من أمزجة خلقها "الشعر وسحر المجازات"، وتلاقي عزوفاً عنها إلى دعوات أكثر "سحريّة" و"تطرّفاً"؛ فـ"الواقع" و"الواقعيّة" على قوّة حضورهما الفعليّ لا يتميّزان بـ"الصخب" الذي تتميّز به دعوات "التّطرّف"، وحين يعلو "الصُراخ" لن يُسمع "الصوت الهادئ" بسهولة ووضوح.
وفي المقابل فإنّ "الواقعيّة" يُمكن أن تتحوّل إلى "وقوعيّة"، فتقبل الوقوع في مطبّ "الجبريّة القدريّة" أو "الجبريّة الحتميّة"، فتصير "وقوعاً" و"استسلاماً".
لذلك حين يوصف شيء بأنّه "طبيعيّ" و"واقعيّ" لا يعني بأيّ شكل من الأشكال أنّ القبول به والاستسلام له هو ما تفرضه "الواقعيّة"؛ فـ"الأمراض" و"الجراثيم" مظاهر "طبيعيّة" موجودة في "الواقع"، ولكنّ الواقعيّة في التعامل معها تكون بـ"مقاومتها"، ومحاولة "القضاء" عليها.