وصية الإنسان يطالها التطور التكنولوجي

تغريد السعايدة

عمان- قد لا يخطر ببال الشخص أن يُقدم على كتابة وصيته في هذه الحياة، سواء أكانت الوصية المتعارف عليها "ما بعد الوفاة"، أو الوصية التي يعبر فيها عما كان يجول في خاطره في حياته، ويرغب بإخبار الآخرين عنها.
ولم يعد شيئاً "مُستغرباً"، في المجتمعات الشرقية أو الغربية على الأغلب، أن يتوجه الأفراد إلى كتابة بعض المواقف المؤثرة في حياتهم، لتعرض على عائلاتهم وأصدقائهم بعد وفاتهم، أو رحيلهم عن المنطقة التي كانت تجمعهم إلى مكان بعيد بدون عودة، وهذا ما تراه الثلاثينية لينا مناسباً.
وتقول لينا وهي موظفة في إحدى المؤسسات الرسمية، إنها لم تفكر يوماً في كتابة وصيتها، فهي ترى أن الناس قد يبتعدون عن التفكير في هذه الفكرة، كونها قد تُذكر بالموت والرحيل، إلا أنها لا تستبعد أن تفكر مستقبلاً بذلك.
وتوضح لينا أن التجربة خير دروس يتعلم منها الإنسان، فهي من خلال بعض معارفها، كانت هناك تجربة "قاسية" لوصية أحد الآباء الذي كتب في وصيته مجموعة أقوال ووجهات نظر حول أبنائه وأقاربه؛ إذ أوصى بأن يقتصر توزيع الإرث على الأبناء فقط دون الفتيات، بالإضافة إلى حديثه الذي لامس وجهة نظره حول بعضهم، ما أدى في النهاية إلى حدوث مشاكل بين أفراد العائلة الواحدة وحدوث "قطيعة بين الاخوة والأخوات".
وتبين لينا أنها في حال أقدمت على كتابة وصيتها، فهي ترغب بكتابة بعض المعلومات التي تحمل في ثناياها مودة وحبا للآخرين حتى يتذكرها الناس بما هو خير، ويدعوا لها بكل خير، على حد تعبيرها، فهي ترى أن من يكتبون وصايا تحمل طابعاً عدائياً أو تدعو إلى حدوث نوع من "المشاكل وسوء الفهم"، خرجت عن كونها "وصية بالخير والرحمة من بعدهم".
أما بالنسبة للحال لدى ربة المنزل خولة، فهي تعتقد أنه من الصعوبة بمكان أن يفكر الإنسان في أن يكتب وصيته، رغم يقينها أن ذلك أمر طبيعي، ويجب على كل فرد أن يفكر في هذه الخطوة، فالفراق أمر محتوم، سواء كان ذلك "بالموت أو الرحيل إلى دولة أخرى".
ورغم تجاوزها سن الأربعين، إلا أنها بالفعل لم تفكر في أن تكتب وصيتها، وتقول إنها في كل مرة قد يخطر في بالها كتابة وصية لأبنائها وأهلها، تشعر بالحزن لمجرد التفكير بفراق أحدهم، لذلك تعاود "حذف الفكرة من بالها"، على حد تعبيرها.
بيد أنها تعتقد أن "الوصية الشفهية"، قد تكون أكثر سهولة على الإنسان، ووقعها في النفوس أقل تأثيرا من ناحية الحزن أو الانفعال، وترى أن التكنولوجيا الحديثة قد يكون لها دور في تدوين بعض الملاحظات والوصايا بطريقة غير مباشرة، "وهذا أفضل".
وهذا ما تؤكده شهد، التي ترى أن مجرد التفكير في الوصية قد يسبب نوعاً من "الخوف من الفراق"، وبالتالي قد تسيطر على الإنسان حالة من التوتر والقلق من المستقبل، لذلك تعتقد أنه من الأفضل أن يحتفظ الإنسان بما في داخله حتى بعد أن يفارق بأي شكلٍ كان، فهي في النهاية مجرد مشاعر قد تقل آثارها بعد غياب الشخص، فـ"لماذا نتعب الآخرين ونُشعرهم بالذنب في بعض الأحيان؟".
وفي العالم الرقمي، أقدمت بعض الشركات العالمية على التفكر جدياً في بعض حسابات الأشخاص على موقعها، مثل "فيسبوك" و"تويتر" و"ياهو" وغيرها؛ إذ أسست غوغل مؤخرا خاصية جديدة أطلقت عليها "مدير الحساب غير الفعال" الذي ينبه المستخدمين لتحديد مصير حساباتهم بعد وفاتهم، وفي حال لم يحدد المستخدم خيارا، فإن سياسات غوغل بهذا الشأن حازمة، حيث تحذر من أن الوصول إلى البريد الالكتروني للشخص المتوفى سيكون ممكنا فقط "في حالات نادرة".
ولكون الكثير من الوصايا تتعلق بالقضايا الأسرية، ترى الاستشارية النفسية الأسرية خولة السعايدة، أن الإنسان الذي يرغب بالتعبير عن مواقفه ومشاعره تجاه الآخرين فيجب أن يقوم بذلك بشكل مباشر، ولا يجب أن يخفيها إلى ما بعد وفاته عن طريق وصية معينة.
وتعتقد السعايدة أن هذه المشاعر السلبية قد تصيب الإنسان الذي وجهت إليه الوصية بنوع من تأنيب الضمير والعقاب الذاتي، والذي قد يتحول عند البعض إلى حالة نفسية صعبة من جلد الذات؛ إذ إن الإنسان لا يمكن أن يغير شيئاً أو أن يعبر عن أسفه لإنسان فارق الحياة، بالإضافة إلى كون هذه المشاعر قد تُشكل صورة قاتمة له من المحيطين به.
وفي الولايات المتحدة، تم وضع إجراءات قانونية تحكم هذه المسألة، وتظل غير مكتملة حتى الآن وتختلف من ولاية لأخرى، وحتى يتم الوصول إلى إجراءات واضحة، ينصح الخبراء أصحاب الحسابات بالتعامل مع أصولهم الرقمية مثلما يفعلون مع أي أصول أخرى، ويوصون المستخدمين بتعيين شخص ما كي يكون مسؤولا، وصنع قائمة بالحسابات وكلمات المرور الخاصة بها، وإعطاء ذلك الشخص توجيهات واضحة بشأن كيفية التعامل مع كل حساب منها.
ومن ذلك، ما أقدمت عليه مرام في إنشاء حساب خاص على "ياهو" لطفلها الذي لم يتجاوز السنتين، ومن خلال هذا الحساب تقوم مرام بإرسال رسائل بشكل مستمر لابنها، على أمل أن يقرأها بعد فترة طويلة من الزمن.
وتقول مرام إنها ستعمل على إعطاء أحد الأشخاص المقربين الرقم السري للحساب "الباسوورد"، ليطلع ابنها عليها فيما بعد، وفي أكثرها رسائل حب وأمنيات ومشاعر مرت بها خلال حياتها مع ابنها.
ويعتبر ما قامت به مرام، نوعا من التواصل والوصية في الوقت ذاته، لتكون مدونة لابنها، الذي تتطلع إلى أن يكبر ويصبح شاباً يقرأ أفكار ومشاعر والدته على المدى البعيد، وتعتقد أن التطور التكنولوجي يعد نوعاً من الأمور التي سهلت هذه الأفكار على مستخدميها.
ولكون الكثيرين يخافون من التطرق لموضوع الوصية، لكونها مرتبطة بالموت والفراق، يرى اختصاصي الطب النفسي الدكتور محمد الحباشنة، أن ألم الموت والفراق له آثاره الكبيرة على النفس، ويزداد ذلك حين يكون المتوفى شخصا مقربا ومؤثرا في غيابه، وخاصة الوالدين، لذلك قد نجد أن الأم أو الأب قد يغيب عن بالهما الحديث في موضوع الوصية كونها مرتبطة بالموت بشكل مباشر.
ويرى الحباشنة أن الإنسان يجب عليه أن يكون على أهبة الاستعداد لأي تغير في حياته، وخاصة الموت؛ إذ إن ذلك قد يكون سبباً في أن يخفف من وطأة الحزن والألم والصدمة.
غير أن السعايدة تؤكد أن ما قد يتم سرده في هذه الوصية بعيد عن الأموال والإرث، من مشاعر ومواقف سلبية قد يكون لها كبير الأثر في خلق مشاكل أسرية قد تؤدي إلى قطع الأرحام في النهاية بين أفراد العائلة.
بيد أنها ترى أن بعض الطرق عن وصايا أمهات أو آباء لأبنائهم التي تكون عن طريق الوسائل التكنولوجية الحديثة جديدة على المجتمعات؛ إذ إن الوصية ترتبط مباشرةً بموضوع الموت والفقد، وعادةً ما يتحفظ الكثيرون على طرح الموضوع.
وفي الدراسات النفسية المتخصصة على مستوى "عالمي"، يعتبر الخوف من الموت نوعاً الأمراض النفسية التي يتعرض لها بعض الأشخاص قد تتعلق برؤية الميت أو الدم، ما يؤدي إلى حدوث حالة لدى الشخص يتجنب فيها الحديث عن الموت ومواقف الموت، ما يجعله يصاب بآلام نفسية صعبة قد تترافق مع شعوره بالاختناق والضيق والكآبة وكثرة البكاء والتشاؤم والنظرة القاتمة للحياة وغيرها من الأعراض السلبية.

اضافة اعلان

[email protected]

@tagreed_saidah