وفي لبنان.. أيضاً..!

عادت إلى الشاشات، منذ مساء الخميس مشاهد "الربيع العربي" التي لم تتوقف عملياً منذ 2011 من المحيط إلى الخليج. بدأ الأمر بأعداد صغيرة نزلت إلى شوارع بيروت عقب اقتراح بفرض ضريبة تعادل ستة دولارات شهرياً (4 دنانير تقريباً) على "واتسآب". وسرعان ما تضخمت الاحتجاجات وانتشرت إلى بقية أحياء العاصمة، ثم إلى مدن أخرى. ورفع المتظاهرون هذه المرة الشعار النهائي القديم: "الشعب، يريد، إسقاط النظام". وأعرب المتظاهرون الغاضبون جداً عن يأسهم المطلق من سوء الاحوال المعيشية، وقلة الأعمال، واستشراء الفساد، والنكث المتكرر بالوعود. ويوم الجمعة، تصاعدت الفعاليات وازداد المحتجون. وبعد خطاب طلب فيه رئيس الوزراء مهلة 72 ساعة لعرض حل أخير، وإصرار المتظاهرين على استقالة الرئيس والوزراء والحكومة، بدأ الأمن باستخدام الغاز والرصاص المطاطي، وتدخل الجيش لتتحول الأمور إلى كر وفرّ. وعاد المحتجون إلى الساحات صباح أمس.اضافة اعلان
عندما اتصلت إحدى المحطات هاتفياً بوزير الاتصالات مساء الخميس لتسأله عن الضريبة الجديدة، استغل المناسبة ليعيد ما قاله المسؤولون العرب، دائماً: المظاهرات ليست عفوية، وراءها "أيادٍ خفية". ولدى سؤال الناس عما إذا كانوا سينهون احتجاجاتهم إذا ألغيت ضريبة "الواتسآب"، قالوا إن هذه ليست المسألة، لكنها "القشة التي قصمت ظهر البعير". وقالوا إنهم يريدون الآن إصلاح الأمور كلها، بدءاً بتغيير الساسة والنظام الطائفي.
أصر المشاركون القادمون من كافة المشارب، على أنهم يخرجون باسم لبنان، وأن الفقر وحَّدهم حول العلم الوطني الذي رفعوه وحده. وطالب كل ابن طائفة بذهاب المسؤولين من طائفته قبل الآخرين. وحتى في الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله الموالي عادة، قال المتظاهرون إنه لا يكفي أن تحميهم المقاومة من الموت برصاص العدو، لأن الموت جوعاً هو موت أيضاً.
كان لبنان معروفاً بأنه البلد الأكثر ديمقراطية وانفتاحاً في المنطقة العربية. لكنه أصبح أيضاً برميل الباردود الأكثر قابلية للاشتعال بسبب نظامه الطائفي. وسيعتقد أي مراقب بأن خبرة الحرب الأهلية التي أوجعت اللبنانيين ستجعلهم حذرين أكثر إزاء المغامرة بالتوتير. وحتى مع أن إصرار المحتجين اللبنانيين جميعاً على ضيقهم بالطائفية، فإنها تظل أكبر خطر على حراكهم، إذا قرر أحد العبث بعود الثقاب الذي تمثله. كما لا بد أن يكون اللبنانيون قد شاهدوا إلى أين قادت الاحتجاجات الشبيهة في سورية واليمن وليبيا. لكن ذلك لم يمنع اللبنانيين، بعد فشل الساسة في تزويدهم بالأمل، من المغامرة هم أيضاً بعد أن وصلوا على ما يبدو إلى الشعور بأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه. وتبين أن الرهان على الخوف من اختلافات التكوينات المجتمعية لضبط مدى الاحتجاجات والمطالب غير مضمون.
تبرهن حركة اللبنانيين، مرة أخرى، أنه ليس هناك مكان بالبلد في مأمن من اشتعال يضربه من حيث لا يحتسب، في وقت غير متوقع ولسبب أصغر من أن يكون متوقعاً. كانت الدول التي تمكنت من الإفلات مرحلياً، هي الغنية التي بسطت أيديها لمواطنيها شيئاً ما – مالياً واجتماعياً- لاحتواء الاحتقان. أما حيث يتجاور غياب المشاركة السياسية مع تحميل الاقتصاد على جيوب مواطنيها، فقد تأجلت الأحداث فيها فقط لتأتي أخيراً، وحيث لم تكن متوقعة؛ في الجزائر والسودان، مثلاً، وبالمطالب القصوى.
أكد اللبنانيون، أيضاً، أن الاحتجاجات لا تكرر نفسها بالضرورة بنفس الكيفيات. فقد خرجوا سابقاً بشتى المطالب، وأبرزها الخدَمية في احتجاجات "طلعت ريحتكم" 2015. وخرج المتقاعدون، وعمال الصحة، والعاطلون عن العمل وآخرون بمطالب فئاتهم. ومع ذلك، أخرجت دولارات "الواتسآب" الصغيرة الجميع إلى الشوارع –هذه المرة بالشعار الأخير: "تغيير النظام".
أفاد الكثير من المحتجين اللبنانيين، من مختلف الأعمار، بأنهم يتظاهرون لأول مرة في حياتهم، أو أنهم لم يتظاهروا منذ عقود. وبذلك، برهنوا خطورة المراهنة على التزام بعض الناس الحياد لأي سبب، واستحالة مشاركتهم في حراكات. وقد خرج بعض هؤلاء عندما رأوا مواطنيهم في الشوارع على شاشات التلفزة –ربما اعترفوا بأن أحوالهم ليست جيدة، أو شعروا بالخجل من القعود في المنازل.
كانت "القرف" هي الكلمة الأكثر تكراراً التي استخدمها اللبنانيون لوصف مشاعرهم تجاه مسؤوليهم. وهو على ما يبدو الشعور النهائي الذي يُنجبه المسؤولون الذين بلا حلول سوى الضغط على مواطنيهم، والذي يدفع العرب تباعاً إلى الشوارع أخيراً –رافعين الشعار الأخير.