"ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه"

د. محمد خازر المجالي

عظيم هو فضل الله وعطاؤه، حين يغري عباده بفعل الخير ويرتب عليه أروع الجزاء وأكمله؛ فلا يعاملنا بمجرد العدل، بل بالإحسان، فجانب السيئات بمثلها، وجانب الحسنات بأضعافها. بل توحي إليك النصوص بتولي الله لعباده المتقين المقبلين عليه؛ فهم عباده وأولياؤه، اجتباهم وأحبهم. وحين يحبهم، فلا يمكن لك أن تدرك كنه ما أعد لهم من ثواب عظيم.اضافة اعلان
"إن لله نفحات، ألا فتعرضوا لنفحاته"، ورمضان شهر فيه خير كثير؛ تتحرر النفس من كثير من شهواتها، وتُبنى الإرادة بناء صحيحا، وتنجلي الرؤية أفضل من قبل، ويدرك الإنسان أن عنده طاقات لطالما كان يخفيها. ولذلك، فهو دورة روحية وفكرية في آن واحد، يدرك من خلالها قيمته، ويتبصر في حقيقة أمره. ومن هنا ندرك قيمة هذا الشهر في أهمية الارتقاء وترك كثير من العادات التي لا يحبها الله تعالى، وأن نجند أنفسنا لله تعالى، الذي خلقنا لعبادته، وكرمنا بأن حملنا أمانة القيام بشأن هذا الدين العظيم، يخلف بعضنا بعضا في هذه الدنيا، ونعظمه فيها فهو الجدير بالعبادة وحده لا شريك له.
يعلن سبحانه أنّ من عادى له وليا، فقد أعلن هو الحرب عليه؛ وأن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله هي الفرائض، ومن ثم تأتي النوافل علامة على محبة الله له، فقال تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". وأولياؤه هم المؤمنون المتقون، قال تعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" (يونس، الآيتان 62 و63). فويل لمن حارب أولياء الله، فالله لهم بالمرصاد ولو بعد حين. وما على أحدنا إلا أن يكون مؤمنا إيمانا كاملا، متقيا له تعالى معظما لحرماته، عندها يستوجب ما ذكره الله تعالى في أنه يدافع عنه ويتولاه.
ويبين النص حقيقة أن أعظم شيء يحبه الله، هو أن يؤدي أحدنا ما افترضه الله تعالى عليه. وهي علامة الطاعة التي يحبها الله تعالى من عباده؛ فهو الذي فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتخلق بأخلاق الإسلام وحسن المعاملة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وهو الذي نهى عن كل سوء ومنكر وخبيث وشرك ومعصية وظلم وفحشاء وبغي، له الأمر كله، وهو أعلم بما شرع من أمر ونهي، ويحب من عباده أن يطيعوه ويخضعوا له بالأمر، سبحانه.
بعد ذلك تأتي النوافل. والنافلة هي الزيادة. وألخّص شأنها بأنها تجبر أي نقص في الفريضة، وأنها علامة على الرضى؛ وكأن الإنسان المؤمن يقول لربه: "يا رب، أنت افترضت عليّ هذه الركعات وهذه الصلوات، فسمعا وطاعة، وأنا أتقرب إليك بغيرها إذعانا وقبولا ومحبة. وأنت افترضت عليّ رمضان لأصومه، فسمعا وطاعة، وأنا أريد أن أصوم غيره من الأيام. وأنت افترضت عليّ نسبة أخرجها زكاة لمالي، فسمعا وطاعة، وأنا سأخرج أكثر منها، حبا لك وطاعة وخضوعا"، وهكذا في سائر الواجبات. عندها تكون النفس قد تحررت من أن تكون مجبرة مكرهة، بل هو الخضوع الكامل والحب المطلق لله تعالى. وقد أخذ الله على نفسه عهدا بأن يكافئ عباده بما يستحقونه وأكثر، فهو أكرم الأكرمين سبحانه.
وليس أعظم من أن يكون الجزاء هو حب الله للعبد إن أدى الفريضة وزيادة بهذه المشاعر الراقية. ويترتب على حب الله لعبده أن يجعله في ذمته؛ فأن يكون سمعه وبصره ويده ورجله، كناية عن حفظه له وتوليه. ويا لها من نعمة عظيمة أن تستشعر نفسك وليا لله، تحيطك ألطافه وعنايته، فقد نذرت نفسك له، وهو جعلك من أوليائه، فلا تسأله شيئا إلا أعطاك إياه، ولا تستعيذ به من شيء إلا أعاذك؛ حياة كاملة في ظل الرحمن سبحانه.
علاوة على ما ورد في شأن حب الله للعبد في هذا الحديث، فإن هناك حديثا آخر يبين مرتبة أخرى للمحبوب. فقد ورد أن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل فقال له: يا جبريل، إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل. وينادي في أهل الملأ أنّ الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه من في السماء، ويُكتب له القبول في الأرض. ويقال مثل ذلك في من أبغضه الله تعالى، والعياذ بالله. والشاهد هنا أن فلانا الذي أحبه الله، لأنه أطاعه وأحبه وأقبل عليه، فإن الله تعالى والملأ الأعلى كلهم مشغولون به، يتحدثون عنه، فهو الإنسان الضعيف البسيط، لكنه بطاعته لله عظيم محبوب.
هي فرصة عظيمة لنا أن نتوب وننيب إليه تعالى؛ أن نعرف حقيقة أنفسنا وما أوجبه الله تعالى علينا. فليس الدين معقدا ولا عسرا، والله سبحانه هو الذي أمر ونهى، ويحب من عباده أن يطيعوه، وفي ذلك الخير كله، فهو الذي أكمل الدين وأتمّ به النعمة ورضي لنا الإسلام دينا. وبرغم شدة الانتقادات ومحاولات التشويه والتنفير عنه، إلا أن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون الذين يريدون إطفاء نور الله، وأنى لهم ذلك.
نعم، هناك من شوّه الإسلام من أبناء المسلمين، فضلا عن غيرهم من الحاقدين على هذا الدين. وهؤلاء ليسوا حجة على الإسلام، فالإسلام يؤخذ من مصادره، حيث القرآن والسنة النبوية الصحيحة، وهذا الدين محفوظ بحفظ الله له. والمطلوب أن نبرهن على صحة إيماننا وندرك ما بقي من أعمارنا، ونسخر أنفسنا في طاعة الله سبحانه، حتى لا نندم.