"وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"

أسامة شحادة*

تتفق الدراسات الإحصائية العالمية على توسع الإسلام وانتشاره. وسبب ذلك، أولا، التكاثر والزيادة السكانية التي تبلغ عند المسلمين 1.5 % مقابل 0.7 % عند غير المسلمين، والتي سينتج عنها تزايد نسبة المسلمين في العالم لتصل إلى 26.4 % من سكان العالم في العام 2030، بحسب دراسة مركز "بيو" عن نسبة المسلمين بين العامين 2010 و2030. كما أن هناك رافدا آخر لزيادة عدد المسلمين في العالم، يتمثل في تزايد الإقبال على اعتناق الإسلام من البلاد والأديان والأجناس والطبقات كافة. ولم يعد الأمر يقتصر على إسلام البسطاء والفقراء من دول أفريقيا أو آسيا، بل أصبح كثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية، بل وحتى ممثلون ومغنون، يعتنقون الإسلام. ومن آخر هؤلاء الممثل الكوميدي العالمي المعروف باسم "مستر بين"، والممثل المشهور ليام نيسون، ومغنية الراب كريستن.اضافة اعلان
لكن هذا التمدد والانتشار لن يرضيا أعداء الله ورسوله ودينه، وذلك لأن الإسلام بعدله ورحمته، يقوض ظلمهم وأكلهم أموال الناس بالباطل. ولذا سيعملون على محاربة الإسلام "يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (الصف، الآية 8). وتتنوع أشكال ذلك بين حرب عسكرية عدوانية، كما نشاهد في بقاع كثيرة من بلاد المسلمين؛ وبين حرب خفية ناعمة ومن الداخل، كما فعل المنافقون الذين أسسوا مسجداً ودعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه، فأمره الله عز وجل بعدم الصلاة فيه وقال له "لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" (التوبة، الآية 108). فالهجوم على الإسلام من داخله، عبر إقامة مؤسسات ترتبط بالدين أو رفع شعارات إسلامية، هو منهج قديم ومكشوف، لا ينطلي على أهل الإيمان وحملة القرآن الكريم.
وفي أيامنا هذه، نشهد موجة جديدة من موجات العداء المتكررة للإسلام، عبر الطعن بالوحي الرباني؛ سواء بالتطاول على القرآن الكريم، أو الطعن بالسُنّة النبوية صراحة، أو عبر الدعوة إلى إعادة دراسة القرآن والسُنّة على أسس جديدة ومناهج وافدة. والغاية من هذا كله محاولة هدم الإسلام عبر التلاعب بنصوص الوحي الرباني، قرآناً وسنة، التي تحفظ للمسلمين دينهم، وتجمعهم على منهج واحد مهما تباعدت بلادهم واختلفت ألسنتهم وألوانهم، كما محاولة زعزعة الإيمان بكثير من العقائد الإسلامية عبر إلغاء كثير منها.
ومن هذه المحاولات القائمة اليوم، الطعن بالسُنّة النبوية في محاولة لزعزعة إيمان المؤمنين بمكانتها، ومصدرها، ووظيفتها.
فالسنة النبوية، وهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من "قول"، مثل قوله "إنما العمال بالنيات"، أو "فعل"، كأدائه للصلاة والصوم والحج، أو "تقرير"، من خلال سكوته أو قبوله واستحسانه لتصرف أو قول جرى بحضرته صلى الله عليه وسلم، ويقصد بذلك التشريع؛ كل هذا وحي رباني، والدليل عليه قوله تعالى "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى" (النجم، الآيتان 3-4). والمقصود بهما أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ في تبليغ القرآن الكريم عن الله عز وجل أولاً، وأنه لا ينطق بالقرآن الكريم بمحض هواه وما يعجبه. وثانيا، أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون التشريع من غير القرآن الكريم هو من الوحي؛ قال الإمام البغوي في تفسيره "معالم التنزيل": "(وما ينطق عن الهوى)، أي: لا يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول القرآن من تلقاء نفسه. (إن هو) ما نطقه في الدين، وقيل: القرآن، (إلا وحي يوحى)، أي: وحيٌ من الله يُوحى إليه)".
فأما عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ في تبليغ القرآن، فهذا جزء من تعهد الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، الآية 9). وكان كفار قريش قد اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يكذب عليهم ويدعي أنه رسول وينزل عليه الوحي، فجاء قوله تعالى: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى" (النجم، الآيات 1-4). فأقسم الله عز وجل بالنجم، أن محمداً ليس بضال (أي الجاهل الذي لا يعلم)، وليس بالغوي (وهو من يعرف الحق ثم يتركه)، بل قرر سبحانه وتعالى أن ما يبلغكم به محمد هو وحي مني وليس بهوى من عند نفسه.
وأما أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون التشريع وأخبار الغيب وكونه من الوحي، فهذا يتضح من توقف النبي صلى الله عليه وسلم في الإجابة عن بعض الأسئلة حتى ينزل عليه الوحي بها، ومن ذلك ما رواه البخاري أن يعلى كان يقول ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة عليه ثوب قد أظل عليه ومعه ناس من أصحابه، جاءه رجل متضمخ بطيب فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سري عنه فقال: أين الذي يسألني عن العمرة آنفا؟ فالتمس الرجل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك"؛ فقد نزل الوحي بالحكم والإجابة من عند الله عز وجل كما ينزل عليه الوحي بالقرآن الكريم.
وروى البخاري أيضاً عن أَبِي جحيفة رضي الله عنه، قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة. قلت وما في الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر". فها هو علي رضي الله عنه يصرح أنه ليس عنده شيء خاص من الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما كتبه من حديث رسول الله في صحيفة عنده.
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يتكلم إلا بالحق، فروى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب. فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده، ماخرج مني إلا حق".
وكون السنة وحيا أمر اتفق عليه العلماء. قال ابن حزم في كتابه الإحكام:
"قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ).
فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي، والوحي بلا خلاف ذِكْرٌ، والذكر محفوظ بنص القرآن، فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء، إذ ما حَفِظَ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدا".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والسنة تتنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى".
ويلزم هنا التنبيه على معنى ومفهوم الوحي اللغوي والشرعي. فالبعض من الناس يتلاعب بخلط المعنى اللغوي بالمعنى الشرعي. فالشريعة جاءت بمعانٍ مخصوصة لبعض الألفاظ. فمثلا، الصلاة في اللغة العربية هي الدعاء، لكن الصلاة في الشريعة هيئة مخصوصة، فخلط المعنيين يسبب تناقضات وإشكالات كثيرة.
والمعنى اللغوي للوحي هو الإعلام بالخفاء، ويدخل فيه الإلهام الغريزي كقوله تعالى "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ" (النحل، الآية 68). ومنه الإلهام الفطري، كقوله تعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ" (القصص، الآية 7). كما يدخل فيه وسوسة الشيطان، كقوله تعالى: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ" (الأنعام، الآية 121)، وغيرها.
بينما الوحي بالمفهوم والمعنى الشرعي هو: إعلام الله تعالى لنبيّ من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه. أو: هو كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه.
والوحي بالمفهوم اللغوي يدخل فيه الحق والباطل، وبعضه من عند الله عز وجل، كإرشاد الطير والنحل لما يصلح حياتهم، وبعضه من شياطين الإنس والجن لنشر الفساد في الأرض، وهو لا يتعلق بشأن التشريع والدين للبشرية كافة.
بينما الوحي بالمفهوم الشرعي، هو الصادر من الله عز وجل فقط لأناس مخصوصين وهم الأنبياء، ليبلغوا أمر الدين -وهو الإسلام دين كل الأنبياء- للبشرية كافة. وهذا الوحي الرباني للأنبياء له ثلاث صور، بيّنها الله تعالى في قوله "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الشوري، الآية 51). وقد جمعت الآية الصور الثلاث: الإلهام والقذف في قلب النبي بالوحي؛ وتكليم الله عز وجل نبيه من وراء حجاب كما حدث مع موسى في جبل الطور، ونبينا عليهم الصلاة والسلام في حادثة المعراج؛ أو ينزل جبريل عليه السلام إلى النبي بالوحي.

*كاتب أردني