"ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها"

د. محمد خازر المجالي

لا أريد أن يمر حادث تدنيس أحد مساجدنا ومحتوياته (خاصة المصاحف)، من دون التركيز على بعض الملحوظات؛ فالموضوع خطير بأبعاده كلها. وصحيح أن إماتة الباطل بعدم ذكره، ولكنها حقيقة وقعت، وتذكرنا بأمور حصلت قبل فترة لمساجد ومصاحف، وتم القبض على مرتكبيها، والحدث يتكرر الآن مرة أخرى. ولا ننسى كذلك حادثة عجيبة في أحد المساجد، حين اقتحم أحد الجيران المسجد غاضبا من رفع صوت الأذان أو الصلاة؛ فمهما يكن من خطأ (لو حصل)، إلا أن الغريب هو هذه الجرأة في الاعتداء على حرمة المسجد والصلاة والمصلين.اضافة اعلان
أولى هذه الملحوظات هي فيمن تجرّأ على هذا الفعل المشين، بتخريب المساجد وتلويث كتاب الله تعالى. وهؤلاء -حتى وان كانوا مراهقين كما اكد بيان الأمن العام بشأن الحادثة- بلغوا من الجرأة مبلغا عظيما، استهتارا بالله تعالى وعقابه، بل المؤكد أنهم لا يؤمنون بالله تعالى، وينظرون إلى هذه المقدسات نظرة الازدراء، ولهذا ينتقمون ويتمادون في الإيذاء. وقد وقع الفعل سابقا بأيدي عبدة الشيطان، ولا يُستبعد هذا منهم من جديد، فالملحدون بمسمياتهم المختلفة يلتقون على الباطل وهم ملة واحدة. ومن عجيب ما رأيت من مواقع لهؤلاء أن يجعل قدميه على القرآن، وهم مجموعة معروفة كارهة للالتزام وأدوات الالتزام، خاصة المسجد والمصحف والحجاب.
مرت علينا قصص كثير من الطغاة، كانوا يلجأون إلى التعذيب أو القتل، أما تدنيس المقدس من مسجد ومصحف، فهذا لا يحدث إلا على أيدي حاقدين مارقين، ووراءهم زمر كثيرة تحب الفتنة وإشاعتها كي نبقى في سجال وقتال.
الملحوظة الثانية، تتمثل في غياب الرقابة أو التقصير فيها؛ فكيف فعل هؤلاء فعلتهم وعاثوا فسادا ولم يسمع بهم إمام ولا خادم؟ قد يكون الأمر حدث خلسة وفي وقت مناسب لهم، ولكن يبقى الأمر في عمومه بحاجة إلى تحقق ومتابعة، قبل أن تنتشر الفعلة مرة أخرى.
وثالث هذه الملحوظات هي تسلسل الفساد إلى أماكن لم يخطر على البال إمكانية اقتحامها، حيث الريف والبساطة والفطرة. وهذا مؤشر ينبغي على المربين والعلماء والاجتماعيين تحليله؛ فعهدنا بأبناء القرى أنهم أسمى من مثل هذه الأفعال، ولكن يبدو أن الخلل عم، وأن أسباب الغواية يوجد من يرعاها، ولا أستبعد وجود جهات داعمة موجِّهة لمثل هؤلاء.
لقد علم أعداء هذا الدين أهمية المسجد ودوره في الإعداد الروحي التزكوي، وسبحان من ذكر المساجد في كتابه في مواضع مختلفة كلها معظِّمة لشأنها. وأكثر ما ورد هو الحديث عن المسجد الحرام في سور البقرة والمائدة والأنفال والتوبة والإسراء والحج والفتح. وجاء في "الإسراء" أيضا الحديث عن المسجد الأقصى، لكن يعنيني هنا الحديث عن المساجد عموما. فهذه الآية من سورة البقرة: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ..." (الآية 114)، ثم في آيات الصيام جاء قوله تعالى: "... وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ..." (الآية 187).
وجاء في سورة الأعراف: "... وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..." (الآية 29)، وفيها أيضا: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ..." (الآية 31)، وآية أخرى في سورة التوبة في أولها عن عمارة المساجد: "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ" (الآيتان 17 و18)، وفي آخرها عن مسجد الضرار وأول مسجد أسِّس على التقوى. وفي سورة الحج حديث عن سنة المدافعة ونتيجة تقاعس أهل الحق الذي ينتج عنه هدم الدين فقال تعالى: "... وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا..." (الآية 40)، وآية في سورة الجن: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" (الآية 18).
ووردت ألفاظ أخرى تدل على المساجد، مثل البيوت. ففي سورة النور بعد أن ذكر الله آية النور أتبعها بقوله: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ" (الآيتان 36 و37).
إنها كلها مواضع تكريم وتعظيم. والمسجد مشتق من السجود، وهو الموضع الذي يكون الإنسان فيه أقرب إلى ربه فيناجيه ويدعوه، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون أحدكم من ربه وهو ساجد". فالسجود قمة الخضوع والتذلل لله تعالى، وهو أمر يحبه الله من عباده. وفي السنة أيضا، أحاديث كثيرة تبين تعظيم المساجد، حيث الأجور العظيمة للمحافظة على الصلوات فيها جماعة، والاعتكاف فيها، والمشي إليها.
وبعد هذا الاستعراض السريع في القرآن والسُنّة عن المساجد، يأتي من يدنسها ويعبث بكتاب الله تعالى ويلوثه! والحقيقة أن هؤلاء قطعوا شوطا كبيرا من الجرأة والحقد على هذا الدين العظيم، والاستهزاء بالله تعالى، والله لهم بالمرصاد، ولكن لا بد من توعية وحذر وتشديد للرقابة.
هؤلاء مسلمون بلغوا من الضلال ما بلغوا، عبث بعقولهم أهل الغواية، وتحمسوا لأفكار غاية في الخسة والدناءة في كره الدين. والمصيبة أنهم ينطلقون من مبدأ الليبرالية والحرية، يعطونه لأنفسهم ويحرمون غيرهم منه، ولا يحترمون الغالبية من أهل البلد المتدينة الملتزمة. ومرة أخرى، فقد أظهرت مواقع بعض هؤلاء على "فيسبوك"، الذين نظنهم أهل فكر ووعي، كيف يضعون أقدامهم على القرآن ويستهزئون بالحجاب وبالمظاهر الدينية عموما، يظنون أنهم بهذا الفعل يعلو قدرهم ويشتهرون، بئس الفكر وبئس المعتقد والمنهج. نسأل الله أن يهديهم أو يخلصنا منهم، وهو على كل شيء قدير.