وهمٌ اسمه القوة!

"بعيني رأيت العرافة سيبيلا في كومي معلقة في جرة. وعندما يسألها الفتيان: سيبيلا ماذا تريدين؛ تجيبهم دوماً: أتمنى أن أموت". ت.إس. إليوت. "من أجل أن أتعلم، لا بد من إطلاق النصوص المأساوية".اضافة اعلان
 توني هاريسون.

على امتداد سني حياتك، تظن على الدوام أن ثمة قوة غير متناهية في داخلك، تستطيع استحضارها كلما دعت الحاجة لذلك. تظن أنك مكتفٍ بنفسك عن غيرك، وأنك لن تحتاج إلى أحد، ولا إلى نصيحة، ولا حتى إلى كتف ما تسند عليها روحك حين تواجهك صعوبات لا تقدر على ردها.
تستطيع أن تدّعي أن الوحدة أقل خطرا، وأن الخطوات التي تكون دائما محسوبة هي أمان لما تأتي بها الأقدار. وأن قوتك الكبيرة هي قوة ذاتية لا تفنى بل تتحول إلى أشكال عديدة من المقاومة التي لا بد أن تزيدك صلابة وثقة باستمرار.
هذا كله وهم.. وتستطيع أن تسميه "وهما جميلا"، خصوصا إن لم تضطر إلى مجابهة خيبته بالانكشاف. لا يهم أن تكون منتشيا بانتصارات قديمة حققتها ذات زمن. المهم أن لا تنسى، في خضم الوهم، معارك مهمة تخسرها في كل لحظات الزمن الراهن، وأنت تتقلب في فراشك ولا تستطيع النوم لكثرة الجروح في روحك.
تختبر الشك وعدم اليقين والخوف، وتجتاحك الرغبة في أن تظل محتلا بوهم القوة، حتى وأنت تعرف أن لحظة الحقيقة تتكشف. وكأن الضعف يهز كتفيك بعنف وهو ينظر مباشرة إلى عينيك، ثم يهمس في أذنك بهدوء وتأكيد: أنا موجود.
وفي لحظة واحدة، تسقط في فخ التجربة الجديدة، لتصبح ضعيفا.. ووحيدا. إنه التغيير المفروض بالفطرة والتخصص على البشر، والذي تقوده الهشاشة الإنسانية التي تظل عاجزة أمام اختبارات كثيرة؛ كبرى وصغرى.
في اللحظة التالية؛ تصبح عاجزا عن إيجاد نقطة ثابتة للوقوف، أو علامة ترتكز عليها لاستشراف خطوتك التالية. تعود طفلا طائشا لا يحسن الاختيار ولا التفكير. يصيبك عدم الاتزان، ويصبح اتخاذ القرار؛ أي قرار، مسألة ذهنية شاقة لا تحسن التعامل مع اشتراطاتها.
تصبح مسجونا بتهمة الضعف، ومكشوفا للعامة كعراة في الشارع العمومي. القبة الحديدية التي سجنت بها نفسك سنوات عديدة، تنصهر فجأة على فراغ، وتبدو عاديا، كأي فرد أو شيء آخر. تتذكر "مسودات وشظايا" لعزرا باوند، والتي طالما اعترفت بعمقها وأحاسيسها اللامتناهية، كما انتقدت صراحتها الكبيرة واعتبرتها انكشافا غير ضروري للهشاشة. هي الآن تعبر كثيرا، غير أن الجرأة تخونك في أن تجعلها أنموذجا. لذلك تستعين بجورج أورويل حين يقول: "إنهُ الخوف الذي يملأ قلب كل شخص عاقل والذي يرى أبعد مِما يراهُ الآخرون"، تصرخ معه ثانية "لم تعد هناك مساحة آمنة، ولا تلك السنتيمترات المربعة في الجمجمة".
تكره أن تتذكر مقولة وليام ماثيوس"أخطّط لملاحظة كلّ شيء"، حين تكتشف أنها ممتلئة بألم الزمن الراهن، بينما أنت تحتاج إلى لغة أقل درامية لتعبر شوطا زمنيا لا تدري مداه. أنت محتل بأسئلة جديدة تماما؛ فكيف لك أن تسقط الأشياء من ذاكرتك. كيف يمكن أن تنسى إحساسك الجديد بالضعف، وتصفح عن كل الأشياء التي وخزتك في كتفك لتنتبه إلى وجود مسار آخر للحياة، وإلى آخرين يشاركون الناس طرقاتهم.