"وهم التفاصيل"..!

يعرض فن الرسم، للمهتمين بتعقب كيفياته، مسألة جديرة بالتأمل. إنك ترى لوحة لمنظر طبيعي، فيها أشجار وصخور وأكواخ ومياه ومكونات، فتعجب من مثابرة الفنان وصبره عندما رسم أوراق غابة من الأشجار ورقة ورقة. وترى لوحة لشاطئ مأهول بكثافة، فتندهش من كيفية رسم كل هؤلاء الناس بملابس وأوضاع متباينة حية. وترى في لوحة سماء غائمة أو يخالطها شفق، فتحتار من قدرة الفنان على رسم طيف الألوان، والضوء يطل من خلفها وكأنها صورة فوتوغرافية.اضافة اعلان
لكنّ الحقيقة هي أن الرسامين يبرعون فقط في توظيف تقنيات تهيئ لك أنهم رسموا تفاصيل التفاصيل بدأب حائكة تطريز، بينما رسموا التفاصيل بلا تفاصيل، بمجرد "التكنيك". إنك إذا شاهدت بعضهم وهم يرسمون، فستراهم يستخدمون فرشاة دهان عريضة –نفس التي ندهن بها الأبواب- ويضعون بها اللون على اللوحة بضربات قوية سريعة متقنة بمساحات عريضة. ثم بتغيير درجة اللون، يضعونه بضربات أخرى بنفس السرعة –وإنما بحركات محسوبة- وسرعان ما تتخلق أمامك عشرات الآلاف من أوراق الأشجار في دقائق. وينطبق الأمر نفسه على رسم الناس في شارع أو على شاطئ؛ بضع حركات بفرشاة وألوان مناسبة، وترتسم أمامك في دقيقة امرأة تسرع بمظلتها تحت المطر وحقيبتها يدها تتبعها متدلية من كتفها… وهكذا.
بعض الفنانين يستخدمون "سكين" رسم وليس فرشاة، ويضعون بها الألوان بسخاء، لكنهم يقنعونك أيضا بأنهم رسموا التفاصيل بقلم رفيع. ومن الممتع –على سبيل المثال، مشاهدة الفنان الفرنسي العبقري، كريستيان جيكويل، وهو يرسم بسكينه راعيا مع كلبه وأغنامه بإضافة كميات من الألوان الزيتية المختلطة، بضربات سريعة. وفي زمن قصير، تتخلق أمامك طيات الملابس وصوف الحيوانات –أو حتى قطيع من الخيول- وكأنما بعمل ساحر. ودائما يتولد لديك وهم لدى مشاهدة اللوحة، بأن الرسام قضى دهرا وهو ينقل التفاصيل.
هؤلاء الفنانون يمتلكون، إلى جانب معرفة التقنيات، ضربا من العبقرية. ومن المؤكد أن مشاهدتهم وهم يرسمون تثير منتهى الإعجاب –إن لم يكن الحسد. لكن المشاهد يتعرف أيضا إلى الكيفيات التي تصنع بها التقنيات "وهم التفاصيل". بشكل ما، يستخدم الفنان أدواته للعبث بحواس المتلقي، وإقناعه بوجود حقيقة في ما ليس حقيقة.
في الحياة أيضاً، يبرع أشخاص مميزون في استخدام "تكنيكات" الإيهام والعبث بحواس الآخرين ووسائلهم الإدراكية. ربما يعرضون –بالكلمات هذه المرة- نظرية أو أطروحة تبدو مبهرة تماماً. لكنّك إذا اقتربت كثيراً وفتحت عينيك جيداً، فسترى "ضربات فرشاة" وليس "أوراق شجر" حقيقية. وفي المقابل، سوف تجد من المتلقِّين من يدافع عن رؤية المشهد ككل وأخذه كما هو على أنه حقيقة مطلقة، ويدعونك إلى عدم التدقيق في التفاصيل.
يُعرِّفون الوهم بأنه تشوُّه يصيب عمل الحواس. ومع أن الأوهام تشوِّه الحقيقة، فإن معظم الناس يتشاركون هذه الأوهام. ولعل "الخداع البصري" أكثر أنواع الأوهام شيوعاً. وقد تكون مشاهدة بعض الأوهام البصرية رائعة للغاية (مثل عمل الرسم الموصوف أعلاه). لكن الوهم يمكن أن يمتد أيضاً إلى تكوين المعتقدات والتصورات الخاطئة للواقع من أي نوع، إلى درجة رؤية أشياء غير موجودة.
المشكلة هي أن الناس يثقون كثيراً بحواسِّهم وتعالي ملَكاتهم الإدراكية، إلى حدِّ استبعاد احتمال الوهم. وقد يصلون في ذلك إلى درجة التشدُّد في الاعتقاد بأنّهم منزهون عن الخطأ، وأنهم الأقدر من كل الآخرين على رؤية دقائق الحقيقة. وحتى لو تجرأت حواسُّهم على اقتراح أن هناك وهماً محتملاً في التصوّرات والمعتقدات، فإنَّهم يُسكتون هذه الاقتراحات، ويحيلون "الغموض" إلى مناطق المعجزات أو الغيبيات أو الموضوعات الأعلى من مستوى الإدراك البشري.
الوهم في حدّ ذاته جزء حتمي من التفاعل البشري. وقد يكون في كثير من الأحيان جزءاً جميلاً في واقع الأمر، وطريقة لتأطير الجماليات أو الهروب من وضع إشكالي. لكنّ الجزء القابل للمفاوضة بشأنه هو الاعتراف بأنه موجود، وبأنّ على المرء أن يُقرِّ بمحدودية أدواته الإدراكية واحتمال وقوعها في حبائل الوهم. وعندئذ، سوف يعطي مساحة لمراجعة أفكاره وتصوراته ومعتقداته ويعيد النظر فيها من زوايا مختلفة، وسيستمع إلى وصف الآخرين للمشهد نفسه كما يرونه من زواياهم الخاصة.
الرسام سيقول لك صراحة إنه يقدم لك محاكاة للحقيقة. لكن رسامي الأفكار يزعمون أنهم يبيعونك الحقيقة كاملة في إطار فضفاض جداً، وينبغي لكَ أن تشُك.