ووترلو ساركوزي هي حربه على الإسلام

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي – (أرشيفية)
الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي – (أرشيفية)

روبرت زاريتسكي — (فورين بوليسي) 6/11/2016

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

خلال مسار حملته ليصبح المرشح الرئاسي للجمهوريين، حزب المحافظين في فرنسا، أثار نيكولاس ساركوزي الكثير من المقارنات بينه وبين دونالد ترامب. ولا يصح هذا فقط على أعدائه في الوسط واليسار، ولو أن رئيس الوزراء الاشتراكي مانويل فالز تحدث عن "ترامبية" الرئيس السابق. حتى أصدقاؤه السابقون في اليمين يرون تشابهاً أكيداً. وكما تندر حليف ساركوزي ذات مرة، والمتواطئ في الظل معه، جان فرنسوا كوب في أيلول (سبتمبر) الماضي: "هناك مرشحون معينون يشاهدون الكثير جداً من العروض مع السيد ترامب". وهذا لأن ساركوزي، الذي يدعي أنه صديق لهيلاري كلينتون، ما يزال بالرغم من كل شيء يراهن على المرشح الرئاسي الجمهوري الأميركي عندما يتعلق الأمر بمن يستطيع أن يقدم الرؤية الأكثر قتامة للوجهة التي يتجه إليها بلداهما.اضافة اعلان
وفق ساركوزي، فإن فرنسا بلد متورط في حرب أهلية بين الذين يودون مشاهدة هويتها تتبدد وولئك الذين يرغبون في حماية هذه الهوية. ويريد الرئيس الفرنسي السابق أن يكون بطل الجانب الثاني. وكما يلاحظ في كتاب حملته "الجميع من أجل فرنسا" والذي نشر هذا الصيف: لن تكون هناك هوية سعيدة طالما لم نقم بإعدة التأكيد على أن الهوية الفرنسية ليست أكثر أهمية من الهويات المعينة".
على مدى مسار الحملة، جهد ساركوزي ليظهر كيف سيفعل من أجل إعادة التأكيد هذه في حال ارتقائه إلى منصب الرئيس. وأصر على أن كل المواطنين الفرنسيين، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية، يقولون أن الغال هم أسلافهم. كما تعهد ساركوزي بحظر ارتداء الحجاب علنا وبشن الحرب ضد "البوركيني" بحماس متجدد. كما وعد بزج كل الإرهابيين المحتملين فيما تدعى "مراكز التخلص من التطرف" —وهي مراكز كان لوران فوكويز، زعيم حزب ساركوزي، قد أشار إليها، من دون سخرية، بأنها "معسكرات اعتقال" غير مبالٍ بالأصداء التي تحملها هذه العبارة من ماضي فرنسا القاتم في ظل النظام الفيشي.
سواء من خلال الاعتقاد أيديولوجي أو المصلحة السياسي—ومن الصعب الفصل بين الموقفين في حالة ساركوزي- يراهن الرئيس السابق بوضوح على أن الناخبين الفرنسيين سيتبنون رؤية أمة في موقف غير موات. ومع ذلك، بالكاد يكون ساركوزي وحده في هذا الموقف. فبالإضافة إلى زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، مارين لوبان، التي تدعو باستمرار إلى سياسة "صفر هجرة" والتي كانت قد وصفت المسلمين الذين يصلُّون خارج مسجد في باريس بأنهم "احتلال"، بدأ الرئيس فرانسوا هولاند لتوه أيضاً بتصوير فرنسا والهوية الفرنسية وكأنهما تحت التهديد. وفي كتاب مقابلات نشر في الشهر الماضي، والمعنون بشكل مناسب "لا يجب على رئيس أن يقول ذلك"، يلاحظ هولاند: "لا أحد يشك بأن لفرنسا مشكلة مع الإسلام". لكن الرئيس الاشتراكي يردد أصداء تعليقات فالز الأخيرة، مصراً على أن "المرأة المسلمة المحجبة اليوم ستكون ماريان غداً" —الأنثى الفرنسية (غالباً عارية الصدر) التي تجسد الحرية.
في سياق بناء قضية لمرشحيهم حول الدفاع عن الهوية الفرنسية التقليدية، انضم ساركوزي ولوبان وهولاند إلى مجموعة من المفكرين المنخرطين فيما يعتبر راهناً خطاباً مألوفاً الوعكة الوطنية. وفي هذا السرد عن التراجع، يجري تصوير فرنسا على أنها بلد مجرد من عظمته السابقة، وتكتسحه أمواج متلاطمة من العولمة والهجرة غير المضبوطتين. وفي تعليقاته السابقة، كان ساركوزي يشير إلى عمل المفكر الفرنسي من المحافظين الجدد، ألن فينكيلكراوت، والذي يرسم كتابه المعنون "هوية غير سعيدة" في العام 2013 صورة مخيفة لبلد يتقسم إلى جيوب دينية وعرقية. وكان المؤرخ الفرنسي روبرت فرانك الذي وضع كتابه الشهير "الخوف من التراجع" والذي نشر في العام 1994، قد اقترح مؤخراً في مقابلة أن الفكرة القديمة "التراجع" قد تحولت إلى "الانحطاط". ولاحظ أن الخطر بالنسبة للعديدين في فرنسا "لم يعد التعرض لغزو من الخارج، وإنما يكمن في ضعف يصيب الهوية الفرنسية".
مع ذلك، تظهر موجة من استطلاعات الرأي أن العديد من المواطنين الفرنسيين لم يشتروا هذه الفكرة. ويوم 18 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، نشرت مجلة "لكسبرس" مسحاً رتب شعبية المرشحين الرئاسيين. وكان على رأس القائمة، عند نسبة 42 في المائة، ألان جوبيه، العمدة الحالي لبوردو. وكان جوبيه قد خدم سابقاً كرئيس للوزراء في ظل الرئيس الأسبق جاك شيراك في منتصف التسعينيات –وهي فترة جعلته يتلقى ازدراء واسع النطاق بسبب جهوده غير الشعبية وغير الناجحة في نهاية المطاف لخفض المخصصات السخية التي كانت الدولة تقدمها كضمان اجتماعي. وبعد سقوطه كرئيس للوزراء أعاد جوبيه اختراع نفسه كعمدة، فأعاد بنجاح تنشيط مدينة كانت كئيبة ذات مرة وكسب دعماً حزبياً جامحاً.
عندما يوجه ساركوزي انتقاداته السريعة إلى أنصار "الهوية السعيدة"، فإنه يضع جوبيه في مرمى النيران. وقد تحولت العبارة التي بادر إلى استخدامها جوبيه في العام 2014 ردا على كتاب فينكلكراوت، لتصبح الشعار غير الرسمي لحملته. (عندما سئل هولاند عن رأيه أجاب بحكمة بأن فرنسا ليست سعيدة ولا غير سعيدة –في نوع من التثليث السقيم الذي أسهم في هبوط تأييده إلى ثلاثة في المائة حالياً). وبدلاً من التراجع في وجه استخدام ساركوزي، قام جوبيه بإعادة تزويد العبارة بقدر أكبر من الطاقة. وبدلا من التراجع في وجه التنوع الديني والعرقي، أعلن جوبيه أنه يسعى إلى "مصالحة" واقع المجتمع الفرنسي مع مُثل الجمهورية. وتحدث عن "عمليات استيعاب" معينة يجب على الدولة الفرنسية أن تحققها مع المسلمين الفرنسيين، والتي تكون مركزة على قضايا عملية مثل الوجبات الحلال في المدارس. كما دان أيضا "جنون المفكرين" الذين اقترح بعضهم أن يقتصر دور الآباء على منح أبنائهم أسماء "فرنسية" تقليدية مثل جاك وماري. ونظير كل هذه الحصافة كوفئ جوبيه، وفقاً للاستطلاعات، من جانب الناخبين المحتملين.
عمل تقليل ساركوزي من شأن جوبيه ووصفه بأنه "ساذج" و"ورقيق" على إكسابه القليل من النقاط لصالحه. ففي استطلاع لأودوكسا، والذي نشر في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قبع ساركوزي في المركز الرابع عشر، متمتعاً بتفضيل أقل من ربع الذين استجابوا لاستفسارات الاستطلاع. وكان لدى نسبة 65 % من الذين استجابوا وجهة نظر غير مفضلة للرئيس السابق: وكان الساسة الوحيدون الذين كانوا قريبين من الحصول على قلة تأييد مشابهة لساركوزي هما مارين لوبان وابنة أخيها ماريون ماريشال لوبان، وهي واحدة من النجوم الصاعدة في الجبهة الوطنية. وباستثناء حدوث مناسبة يمكن أن يكون لها تأثير زلزالي على المشهد السياسي –حيث وقوع هجوم إرهابي آخر هو السناريو الأكثر ترجيحاً- فإن أحلام ساركوزي بالعودة إلى قصر الأليزيه ستتبخر على الأرجح مثل الدخان عند إجراء الانتخابات التمهيدية في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي. ويبدو أن الولد العائد الممكن قد أساء على بشكل سيئ تقدير مزاج الناخبين الفرنسيين.
يأتي الدليل على أن الوسط يتماسك في فرنسا من يسار الطيف السياسي: الذي حل ثانياً بعد جوبيه بعد حصوله على 34 في المائة من الدعم وفق الاستطلاع الذي أجرته "الإكسبرس"، كان إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد السابق في حكومة هولاند. فبعد أن ترك موقعه في آب (أغسطس) الماضي بعد سلسلة من الخلافات مع الحكومة حول اقتراحاته بخفيف إشراف الدولة على قوانين العمل، كرس ماكرون البالغ من العمر 38 عاماً وقته من أجل بناء حركته السياسية الخاصة، واسمها " المسيرة". ولكونه خريج كلية الإدارة الوطنية المرموقة في فرنسا والتي تعتبر أرض التدريب للتكنوقراط الفرنسي، يقر ماكون بأن الفرنسيين لم يعودوا يؤمنون بالحلول التقنية. وبدلاً من ذلك، وضع الإجراءات الواسعة التي من شأنها أن "تعيد الحيوية والنشاط" للديمقراطية الفرنسية، بما في ذلك التمثيل النسبي لمجلس الشيوخ والجمعية الوطنية. ولأولئك الذين يقلقون من أن ذلك الإجراء سيزيد من تمثيل الجبهة الوطنية، يجيب ماركون بعقلانية بأنه "بدلا من الحد من المتطرفين عبر استثنائهم، فإننا نقوم بتعزيزهم".
الشيء الأهم هو أن ماكرون، مثل جوبيه، حشد من أجل جمهورية شمولية ومتسامحة. وقد هاجم مرارا وتكرارا ما يصفه بأنه العلمانية النزيهة الضيقة المتبناة لدرجات متفاوتة، ليس من جانب لوبان وساركوزي فقط، بل وأيضا من جانب الكثيرين من اليسار، بمن فيهم رئيسه السابق رئيس الوزراء فالز. ويحاجج ماكرون بأن اقتراح ساركوزي بمنع الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب في الجامعات العامة ليس اقتراحاً ديماغوجياً وحسب، وإنما كارثيا أيضا. وقال إن هذا القانون بينما "يهمش الطلبة المسلمين، فإنه لن يوقف صعود التشدد ولن يعزز العلمانية". وعندما يتعلق الأمر بالمعتقد الديني، يصر ماكرون على الحيادية الصارمة للدولة. وطالما كان الكاثوليكيون يحترمون حقوق الآخرين مثل المسلمين، فلا يحق للجمهورية في التدخل في معتقدات الفرد "السامية". وفي تصرف ينم عن شجاعة سياسية، يقر أيضاً بوجود عنصرية بنيوية في العديد من فضاءات الحياة الفرنسية: "إذا كان اسمك يوسف أو إبراهيم في بلدنا، فإن الحياة تصبح أصعب بكثير عليك".
تنبع شعبية كل من جوبيه وماكرون على حد سواء من دون شك من صورتيهما كمديرين كفؤين يحلان المشاكل. لكن صعودهما وتعثر ساركوزي يشير أيضاً إلى محدودية سياسة التراجع والهوية الوطنية في فرنسا. وعلى النقيض من الرأي الشعبي السائد في أماكن أخرى من العالم -أو الرأي في الدوائر الفكرية الباريسية على الأقل- يتبين أن الأمة الفرنسية ليست قضية رئيسة بعد كل شيء. ففي استطلاع أجرته في الشهر الماضي مؤسسة الاستطلاع الفرنسية "ايفوب"، حددت نسبة تقل عن 10 في المائة من الناخبين "العلمانية ومكان الإسلام في المجتمع الفرنسي" على أنهما "موطن اهتمامهم الرئيسي". وبدلاً من ذلك اعتلت "محاكفة البطالة" القائمة، حيث حددت نسبة 27 في المائة من الناخبين البطالة بأنها موطن الاهتمام الرئيسي، تلتها "الحرب على الإرهاب" و" المستوى الضريبي". وكشف الاستطلاع أيضاً أن 56 في المائة من الناخبين يعتقدون بأن الساسة "يتحدثون كثيرا جدا عن الإسلام"؛ وأن ربعهم فقط يعتقدون بأن الساسة لا يتحدثون كفاية عنه.
في الكتاب الذي نشر مؤخراً "فرنسا: الماركة "يحاجج اختصاصي العلاقات العامة المعروف جيداً، فيليب لينتشينر، بأن أمثال ساركوزي ولوبان وفالز قد بالغوا في أطروحاتهم وحطوا من قدر جمهورهم. ويؤكد لينتشينر على أن غالبية الفرنسيين لا يشترون قائمة الأطروحات المعادية للهجرة والمعادية للمسلمين. ويكتب: "إن تذكيري بأنني سليل من الغال لن يساعدني في العثور على وظيفة أو في تنمية تجارتي".
بالنسبة لأناس مثل لينشينر، أو أمثاله من المواطنين المعنيين بالموضوعات البراغماتية مثل الاقتصاد، سوف يتطلب الأمر من جوبيه وماكرون وجدود شيء لعرضه أكثر من التمسك بالسرد عن التراجع الاجتماعي والسياسي. لكن السماح بذلك هو بداية على الأقل. ويبدو أن أصحاب أسماء جاك وماري الفرنسيون لا يقلون توقاً إلى خط قصّ جديد عن أصحاب أسماء يوسف وإبراهيم.

*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: Nicolas Sarkozy’s Waterloo Is His War on Islam