ياسر العبود وبشار الأسد

مثل كل فتوحاته؛ من اقتحام الجامع العمري أول مرة، إلى تدمير القصير وبابا عمرو، أعطى الفتح الكيماوي زهواً جديداً لبشار الأسد، فخرج وكأنه فعلا سحق إسرائيل بالكيماوي استجابة لهتافات الجماهير قبل عقدين: "بالكيماوي يا صدام"! مع فارق جوهري، هو أن صدام حسين ضرب إسرائيل بالصواريخ، على بعدها، وهي خططت لاغتياله. أما بشار فهو نفذ وعيده بتدمير الكيماوي بعد أن استخدمه ضد شعبه، ولم يرد على غارات إسرائيل، ولا حتى على اغتيالها للمسؤول عن السلاح الكيماوي العميد محمد سليمان. اضافة اعلان
ظهر بشار محدثا عن بطولاته في اليوم الذي خسرت فيه سورية واحدا من أبطالها؛ المقدم ياسر العبود، قائد العمليات في المنطقة الجنوبية. وهو من جيل بشار، لكنه عسكري محترف، خدم في الجيش وتدرج في الرتب العسكرية من دون "تقفيز" لدواعي التوريث. والعبود فهم ألف باء العسكرية بأنها لحماية الوطن واسترداد الأرض السليبة. وعندما ثارت محافظة درعا ثورة الكرامة، انشق مثل كل المنشقين، رفضا لذبح الشعب أولا؛ ولحماية المتظاهرين ثانيا؛ وثالثا، بعد عسكرة الثورة، لإسقاط النظام بقوة السلاح.
كشفت الثورة المديدة في سورية أجمل ما في الشعب السوري، وأسوأ ما فيه أيضا. كان "أبو عمار" واحدا من أجمل أبطال سورية. كان زاهدا متجردا، يتطلع للآخرة لا للدنيا. لم يتخلف عن معركة، وكان في الصفوف الأولى دائما، ما أكسبه ثقة الجميع، حتى من اختلفوا معه سياسيا. لم يكن يطيق مغادرة سورية، مستعجلا العودة كلما شاهدته. يجد نفسه مع المقاتلين على الأرض لا مع السياسيين في الخارج.
في فترة وجيزة، تمكن من تعديل كفة الصراع في المنطقة الجنوبية؛ فقد كان عسكريا محترفا يدرك جيدا موازين القوى، وما كان يخذله دائما قلة السلاح والإمكانات. كنت كلما أستمع لمعاناته لتوفير الطحين والأدوية والذخيرة، أسخر من حديث المؤامرة على نظام الممانعة؛ فأي متآمرين يعجزون عن إدخال الطحين؟
وصل سلاح للجيش الحر، لكنه لا يعادل خمسة في المئة مما وصل النظام. وبإمكانات محدودة، تمكن أبطال سورية من تحرير مناطق شاسعة. لكن الاحتفاظ بتلك المواقع والتقدم نحو المزيد، يحتاجان دعما غير الذي يقدم. كان يقول لي إن الدعم المقدم لا يُسقط النظام، لكنه يُبقي الجيش الحر على قيد الحياة. امتلك تصورا سياسيا دقيقا، وكان أكثر ما يخشاه أن تتحول المنطقة الجنوبية إلى "جيش سورية الجنوبي". وكان يعتبر إسرائيل عدوا، وأن كل ما حل بسورية من تدمير هو لخدمتها. وكان يقول عن الضربة الأميركية المتوقعة إنها تخدم النظام وتدمر ما بقي من الجيش السوري. أذكر قبل أن يهاجم كتيبة الرادار كم كان آسفا عليها، قال إنها كلفت الشعب السوري ملايين، "ونحن مضطرون للهجوم لكف أذى النظام".
ضحى كثيرا؛ استشهد أخواه، وأبناء أخيه وأخته، واعتقلت أخته. في كل مرة ألتقيه أجد إصابة جديدة، وكان جسده معتلا نحيفا. وفي موقف من مواقف الضيق غاب عن الوعي وأُجريت له قسطرة. تذكرت كلما رأيته قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس عظاما تعبت في مرادها الأجساد
في آخر اتصال كانت قد أصيبت عينه الثانية، فقلت له استكمل علاجك في عمان لأنها العين الوحيدة الباقية. قال إنه لا يستطيع أن يبقى. في المعركة التي استشهد فيها يقول حسن الزعبي الذي جُرح معه: تقدم للخطوط الأولى، وأطلقت علينا قذيفة دبابة. طلب من الجميع الانسحاب نحو الأبنية ولم ينسحب قبلهم، وقال سيضربون الثانية. وبالفعل، عاجلته قذيفة تليق بضابط دروع، ولسان حاله: "وعجلت إليك ربي لترضى"؛ فمثله لا يموت على فراشه، ولا نامت أعين الجبناء.

[email protected]