يا أمة (اقرأ)

Untitled-1
Untitled-1

د. محمد المجالي

يا أمّة (اقرأ)، و(قم فأنذر)، و(قم الليل إلا قليلاً)، وهي من أوائل السور التي نزلت على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، زاد فكري، وهمة دعوية، واطمئنان روحي، لتشكل الشخصية المسلمة التي يحبها الله تعالى، ومن بعدها يطمئن أحدنا أنه على صراط ربه المستقيم، لينطلق بعد ذلك محققا شمولية هذا الدين: "يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة".اضافة اعلان
إن بداية الوحي بـ (اقرأ)، وختامه بـ "واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" تشعران بأهمية المسؤولية في حياة المسلم، فلم يُخلق عبثا، بل لغايات سامية، عبادة لله، وحمل الأمانة، والقيام بأمر الله في أرضه.
إن هذا القرآن مقرر لشمولية الدين ودقة تشريعاته وواقعيته ومرونته، ويرد على أولئك المنتقصين من حقيقة الدين والمتهمين له بأنه دين متخلف عن ركب الحضارة مقصر في سد حاجات الناس أو مقتصر على طقوس العبادة، ولم يعلموا أو تعاموا أنه شريعة وعبادة، يفصّل في أدق شؤون الحياة، وصدق الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"، وما المسلمون وعزتهم وتقدمهم عبر التاريخ وفي الحاضر إلا بالعلم الذي أكده الله بافتتاحه كتابه المعجز الخالد بقوله (اقرأ).
إن الدين بمفهومه الصحيح لا يعيق التقدم، بل هو الباعث على الرقي الإنساني، واستعمار الأرض، وإن وجود (سدس) آيات القرآن متحدثةً عن العلم ومظاهره ومفرداته لا تقول للإنسان نم أو تخلف، بل كن إيجابيًا معطاءً منفتحًا مقدامًا، وما معنى وجودِ (ثلث) آي القرآن قصصًا يحكي تجارب الأمم وعلاقاتها بأنبيائها ودينها؟ إنها ربطُ المسلم بعراقة الأصل البشري وامتدادٌ للرسالات السماوية، وما معنى وجود مئات من آيات الأخلاق وتلك التعقيبات في نهايات الآيات التي نسميها بالفاصلة القرآنية، المتحدثةِ عن صفات الله وأسمائه، المشعرة دائمًا بعظمة الله وجلاله؟ كل ذلك يؤكد ربط الإنسان بالمعاني السامية، والرقي الإنساني. ولقد اهتم القرآن بالعقل فذكره (49) مرة، والفكر (18) مرة، والتذكر بمشتقاته أكثر من (200) مرة عدا كلمة (الذكْر) التي تدل على القرآن أو ذكر الله، والتدبر (4) مرات، والنظر (36) مرة، والفقه (20) مرة، وذكرت حاسة السمع (102) مرة بعضها ليست ذات دلالة مباشرة على طلب السمع، والبصر (52) مرة، وأولو الألباب (16) مرة، وأولو النهى مرتين، وهكذا. أما كلمة العلم ومشتقاتها فقد وردت (582) مرة.
إن العلم بأنواعه طريق للعزة والإبداع، خاصة العلم الشرعي الذي يعنى بعلاقة العبد بخالقه وبغيره وبشؤونه، ولا بد أن يُعبد الله على بينة وبصيرة، ولا بد في الوقت نفسه من التخصص والإبداع في علوم الحياة المختلفة، وقد جعل الإسلام طلبها فرض كفاية، ويقول الله: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء)، ويقول: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟"، والعلماء وأهل التخصص والإبداع هم أكثر الفئات مرجعية وثقة من قبل الناس، وهم أحرى بقيادة الفكر وتوجيه الرأي وتبصير الناس بأمور حياتهم.
إن النظرة الجزئية لحال الأمة زمانًا ومكانًا ربما تحبط، فالنظر إلى ما يفعله يهود في فلسطين مثلا، أو النظر إلى الدم النازف في أكثر من مكان، أمر قد يبعث على الإحباط، ولكننا نعمم النظرة زمانًا ومكانًا، فينبعث التفاؤل على أكثر من صعيد، لأن الأيام دُول، فلا بد من النظرة العمومية في المسائل الفقهية والحياتية، حيث ننظر إلى مآلات الأمور ومصالح الأمة وروح النصوص ومقاصد التشريع، عندها نوسع الرأي ونمهد لحلول منطقية لمشكلاتنا، وكذلك عند الدعاة إنْ نظروا إلى اختلاف طبائع الناس وأهوائهم وظروفهم فلا وجود للتعصب، والمُصلح إن علم بأن الميادين كثيرة فلا بد من أن يتعاون مع غيره لا أن يقصيه، حتى الرجل في بيته إن غلّب النظرة بأن المرأة مثلاً إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر، وهكذا في شؤون الحياة كلها، فلنغلب النظرة الكلية العمومية، ولنخرج من قمقم أنفسنا وضيق صدورنا إلى رحابة الإسلام الذي أراده الله للناس كافة رحمة للعالمين، وقد قيل: "كلنا كالقمر له جانب مظلم"، حتى لا يصيبنا كبر فنزدري الآخرين.
لقد قيل إن النصر والمجد لا يكونان إلا بمداد العلماء، ودماء الشهداء وأموال الأغنياء، وقد قيل: "زئير الأسد لا يكفي لقتل الفريسة"، فلا بد من العمل باتجاه القضايا الرئيسة التي ينبغي أن تشغل بال الجميع: علماء وطلبة العلم ودعاة: وحدة الأمة، ونهضتها الفكرية والعلمية، وإعادة ثقتها بنفسها ومنهجها الرباني، والأخوّة التي نصبغها بالرحمة والمحبة والتعاون، فلا بد من تغليب الجوامع على مسائل الاختلاف الفرعي، وإحياء فقه الاختلاف وأدب الاختلاف، يقول الشافعي رحمه الله: "ما جادلت أحدًا إلا تمنيت أن يظهر اللهُ الحقَّ على لسانه دوني"، وقيل: "أن تكون على حق لا يستوجب أن يكون صوتك مرتفعًا".
وطردًا لليأس نقول: "حتى لو فشلْتَ فيكفيك شرف المحاولة"، وقال أحدهم: "أنا أمشي ببطء، ولكن لم يَحْدث أبدًا أنني مشيت خطوة إلى الوراء"، فلا بد أن يعود للعلم والفكر والوعي دورها، ولنتذكر حزن الغزالي عندما زار المسجد الأقصى فلم يجد إلا خمسمائة حلقة علم، ولنتذكر ذاك الذي سمع عن النهضة العلمية في بغداد، فذهب لتفقد الحقيقة، وعلى أبوابها سار خلف غلامين ينقلان الخبز على رأسيهما، وسمعهما يتحاوران، يقول أحدهما: لقد ذهب أبو حنيفة إلى كذا، واعتمد على كذا، بينما يرى مالك كذا، وحجة أحمد هي كذا..، فلما سمع ذلك اندهش ورجع أدراجه وقال: إن كان هذان الأجيران هكذا، فكيف بأهل العلم منهم؟