يا لهذه الدوغما القاتلة..!

علاء الدين أبو زينة درس لنا في الجامعة مساق “فن الكتابة والتعبير” أستاذ عتيق الطراز -شكلا ومضمونا. وكانت مادة المساق كتابا من تأليفه هو بنفس عنوان المساق. وأصر فيه على أن أفضل وقت للكتابة هو بعد صلاة الفجر. فإذا أجبت في الامتحان بأن أفضل وقت للكتابة هو الضحى، أو الظهر، أو المساء، خسرت علامة السؤال. يفترض أولا أنك تصلي الفجر، ثم تكتب. وإلا فأنت لا تعرف حقيقة الكتابة، وستفشل فيها -وفي الامتحان. نفس الدوغما المسببة لصراعات البشر الدموية كل صاحب مذهب أو عقيدة؛ دينية أو لادينية؛ اقتصادية أو سياسية -أو حتى فكرة غبية هامشية- يثق بأنه المالك الحصري للحقيقة والباقي سدى. وحبذا جلب الضالين إلى جادة الصواب بحد السيف أو القصف الشامل. والمفارقة أن الذي يجسد هذا الاتجاه بلا منافس تقريبا، لأنه مالك القوة والخطاب، هو العالم الأنجلو-أميركي، “الديمقراطي الليبرالي” أبو الحرية والتعددية بالذات. إنه صاحب الشكل النهائي للتطور الأيديولوجي، “نهاية التاريخ”. وهو المضطر إلى حمل عبء “صراعات الحضارات” بمحاربة نقيضه اللاحضاري: المتخلفين والاستبداديين والدمويين –المسلمين مثلا، ثم روسيا و”الأوتوقراطيات”. تلخص الكاتبة والمؤرخة الأميركية، آن أبلباوم، عقيدة الغرب “المهدة” بأسى: “في أعقاب كارثة 1939-1945، تخلى الأوروبيون جماعيا عن حروب الغزو الإمبريالي والإقليمي. توقفوا عن الحلم بإبادة بعضهم البعض… وبسبب تحول أوروبا… اعتقد الأوروبيون والأميركيون أنهم وضعوا مجموعة من القواعد التي ستحافظ على السلام -ليس في قاراتهم وحدها، ولكن في العالم كله”. واضح، طبعا، “السلام… في العالم كله”. وتضيف: “اعتمد هذا النظام العالمي الليبرالي شعار “ليس مرة أخرى”. لن تكون هناك إبادة جماعية مرة أخرى. لن تقوم الدول الكبيرة بمحو الدول الأصغر من الخريطة مرة أخرى. لن نكون رهائن يسيطر علينا الدكتاتوريون الذين استخدموا لغة القتل الجماعي مرة أخرى. على الأقل في أوروبا، سوف نعرف كيف نتصرف عندما نسمع هذه اللغة”. ولكن. “بينما كنا نعيش بسعادة مع وهم أن عبارة :ليس مرة أخرى، تعني شيئا حقيقيا، كان قادة روسيا، أصحاب أكبر ترسانة نووية في العالم، يعيدون بناء جيش وآلة دعاية مصممين لتسهيل القتل الجماعي..”. يعني: كان العالم كله بخير؛ كله عدالة، وديمقراطية، ومساواة وحقوق إنسان، و”ليس مرة أخرى”، إلى أن خربت روسيا (النووية) العالم الهادئ المستقر الرائع. قبلها، لم يكن ثمة غزو، ولا تدخل في أوطان الآخرين وتحويلها إلى خرائب ومدافن. لم تكن هناك أنظمة استبدادية يرعاها الغرب. لم يكن ثمة قتلى ولا سجناء ولا مضطهدين أو جائعين –إلى أن قررت روسيا تقويض هذا كله. وليس روسيا وحدها في الحقيقة، لقد راقبت الديمقراطيات، حسب أبلباوم، “الأنظمة الاستبدادية الأخرى… لأن روسيا ليست الدولة الوحيدة في العالم التي تطمع في أراضي جيرانها، وتسعى إلى تدمير شعوب بأكملها، ولا تتورع عن استخدام العنف الجماعي. سوف تستطيع كوريا الشمالية مهاجمة كوريا الجنوبية في أي وقت، ولديها أسلحة نووية يمكنها أن تضرب بها اليابان. وتسعى الصين إلى القضاء على الأويغور… ولديها خطط إمبريالية في تايوان”. وتؤكد أبلباوم: “ليس هناك نظام عالمي ليبرالي طبيعي، ولا قواعد من دون وجود من يقوم بفرضها”. يعني “يجب” فرض يوتوبيا الغرب على التعساء الذين لا يعرفون. و”ما لم تدافع الديمقراطيات عن نفسها معا، فإن قوى الحكم المطلق ستدمرها… الآن يفضل العديد من السياسيين الأميركيين… التركيز على المنافسة طويلة الأمد مع الصين. ولكن طالما أن روسيا يحكمها بوتين، فإن روسيا منخرطة في حرب معنا أيضا. وكذلك روسيا البيضاء، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وإيران، ونيكاراغوا، والمجر، وربما دول أخرى كثيرة”. لحسن الحظ، لم تذكر العرب الذين يبدو أنهم إما ديمقراطيون بالجينات –أو لا أهمية لهم توجب ذكرهم، أو أن أمرهم مفروغ منه في قسمة “إما معنا أو ضدنا”. ويؤكد فرانيسس فوكوياما، منظر المؤسسة أن “كابوسه النهائي” هو عالم تعمل فيه الصين وروسيا بانسجام معا، ربما مع تعزيز الصين لحرب روسيا وشن بكين غزوها الخاص -لتايوان. وإذا حدث ذلك، ونجح، “فعندئذ سنعيش في عالم تهيمن عليه هذه القوى غير الديمقراطية. وإذا لم تستطع الولايات المتحدة وبقية الغرب منع حدوث ذلك، فستكون هذه حقا نهاية “نهاية التاريخ””. يعني سيتقوض العالم الجميل والفردوس الأرضي الذي صنعه “النظام القائم على القواعد”. ليتكم ترحمونا من هذه الدوغما القاتلة! المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان