"يا وجع قلبي" على مركز سعيد المسحال

 

فجّرت عشرة صواريخ انطلقت من الجو يوم 9 آب (أغسطس) مركز سعيد المسحال للثقافة في غزة.

كان سعيد في سن 14، في الصف الأول الثانوي، العام 1947، عندما انتقل من قريته الجورة، إلى مدرسة المجدل الثانوية، وفي يوم تسجيله اصطحبه والده لبنك الأمة، ليودع مبلغاً كبيراً باسمه، ويخبره أنّه سيزيد المبلغ ليغطي تكاليف الدراسة الجامعية مستقبلاً. ولكن لم يمر عام حتى جعله يسحب المبلغ، واستخدمه لشراء السلاح.

اضافة اعلان

في العام 1945 كان عربي، يعمل في حراسة آثار منطقة عسقلان، جاءه مفتش من القدس، وأثناء الحديث سأله إن كان يصحبه ليزور بساتين المنطقة الجميلة، فصحبه لبستان خليل المسحال، الذي رحب بالضيف، وطلب من ابنه سعيد اللحاق للبستان، بصحون وإبريق ماء وأكواب، وعندما فعل، وجد "الضيف" يركض هارباً ووالده يراقبه غاضباً. فوضع الولد حمله أرضاً، وقذف حجارةً نحو "الغريب". ولم يجرؤ الطفل سؤال الأب عمّا حصل. ولكن أمه أخبرته بالحادثة، فالأب قدّم لذلك الشخص الفواكه، ولكن هذا طلب قطف المشمش والتوت بنفسه، فسمح له بذلك مرحباً، وأثناء نزع الفواكه، قال "لعلي سأعيش عشرة أعوام؟"، فتمنى المُضيف للضيف طول العمر وسأله، لماذا عشرة؟ فرد لأرى البستان صار لنا. أدرك الأب أن القادم صهيوني، فأمهله حتى يعد للعشرة، وهدده "إن وجدتك أمامي بعدها قتلتك"، فهرب.

يعرف أهالي جنوب فلسطين، أن مُسنين، لزموا قراهم العام 1948، رغم وحشية الهجوم الصهيوني، واعتقدوا أنّهم بمأمن من القتل بسبب تقدم سنهم. وأحد هؤلاء، من قرية الجورة، أمسكوه وألقوا به العام 1949 على حدود غزة، وجاء أهل قريته هناك، وأخبرهم أن واحداً ممن طردوه قال له اذهب لخليل المسحال، وأبلغه تحياتي، وقل له أصبح البستان معنا قبل مُضي عشرة أعوام.

صار سعيد في غزة، لاجئاً، وعضواً في جماعة الإخوان المسلمين، يفكر بفلسطين والمستقبل. في مرة كان يلهو في البحر مع من سيصبح الشهيد عبدالله صيام، أحد أبطال صمود بيروت 1982، عندما سقط صديقهم أحمد ياسين، وتبدأ مسيرة الشلل، التي لن تمنعه أن يؤسس حركة "حماس". ودرس سعيد هندسة البترول، لأنّه يريد "تعريب النفط" وإخراجه من يد الغرباء. وفي الجامعة تمرد وغضب من الإخوان المسلمين، وممن شاركه ذلك كمال عدوان، اللاجئ من قرية بربرة، وعبدالفتاح حمود، القادم من الضفة الغربية، وسيكون الثلاثة من مؤسسي الحركة الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً حركة "فتح"، ولا سيما في السعودية، حيث عملوا، قبل انتقالهم إلى قطر، ليحتل المسحال وعدوان منصبين رفيعين جداً في قطاع النفط. وقد أخبرني المناضل فواز ياسين، أنّهم عندما أسسوا الخلايا الأولى للحركة الوطنية الفلسطينية في البحرين، نهاية الستينيات، كان المسحال يأتيهم من قطر لمتابعة شؤونهم.

ويقضي المسحال 27 عاماً في قطر، ولا يترك حلم الوطن. ويعود إلى فلسطين، ويزور منطقة الجورة وعسقلان العام 1995، ويصدمه اختفاء البساتين والاخضرار. ويقرر إطلاق مؤسسة ثقافية، العام 1996، تسمى مؤسسة سعيد المسحال للثقافة والعلوم، ثم يصبح لها مبنى خاص، يضم "مسرح عسقلان"، وهو الوحيد تقريباً في القطاع، وقاعة مؤتمرات ومكتبة إلكترونية وتقليدية، ومركز للدراسات وقاعات معارض للفنون، واستضاف المبنى مكاتب الجالية المصرية والمركز الثقافي المصري.

تابعتُ ما قاله شباب غزة، عن تدمير "المركز"، وتواصلت مع بعضهم، وعنوان هذا المقال قاله أحدهم. الأطفال الذين دبكوا فيه لعسقلان وبربرة، وهربيا، والجورة، ويافا، وكل فلسطين. قالوا "سعيد المسحال ذكريات الطفولة، وحلم الشباب، لنا بكل زاوية فيك ذكرى ودقّة قلب". وقالوا "كل أحلامنا ذهبت". وآخر قال هناك كانت "أحلام الفقراء والغلابى". وأخرى "كم أشعر بالقهر.. لم يبقَ لي شيء".

انتفض سعيد المسحال من تحت الرماد وصنع حركة وطنية، ومركزاً ثقافياً، وعلى خطاه علّقَ أحد أبناء المؤسسة "أحلامنا لن تنتهي، قُصف مقر العنقاء، ولم يعلم الاحتلال أنّه طائرٌ لا يموت، ويخرج من الرّماد، وفي هذا المبنى تعلم أطفالنا كيف يدافعون عن فلسطين بتمسكهم بهويتهم وتراثهم، عاشت فلسطين وعاشت العنقاء".

على أنقاض المركز عرضت منذ هدمه مسرحيات، واحدة عنوانها "قصف رمادي ملون"، وغنى الشباب الأغنيات "الراعفة"، فهل سيعود مركز المسحال يوماً في غزة ويصل حتى جورة عسقلان؟