يبشّرون بفلسطين

لم يكن ضياع فلسطين ليمرّ مرور الكرام على شعبها الذي نبت وعاش فيها منذ آلاف الأعوام، وقد ابتكر في سبيل استعادتها عدداً كبيراً من الطّرق. غير الثّورات المتلاحقة التي فجّرها، والانتفاضات والإضرابات، لجأ هذا الشّعب إلى نقل إرث الحنين لفلسطين، فتوارثت الأجيال الجديدة حبّ فلسطين عن الأجيال السّابقة، حتى ظلّت هذه الفلسطين بكامل عنفوانها مستلقيةً على عرش الأرواح.اضافة اعلان
لقد كان للجيل الأوّل، جيل الحكّائين من الآباء والأمّهات، أولئك الذين نشأوا وترعرعوا في فلسطين، وعاشوا تفاصيل الخروج الأوّل والثاني من الوطن، دور عظيم في بقاء فلسطين حاضرة في الجسد والرّوح. وذلك من خلال بثّهم تلك الحكايات العذبة السّاحرة التي لا تنتهي. لقد أخلص هذا الجيل لفلسطين، وظلّ يبشّر بها في أحلك الظروف، كما استطاع أن يسطّر التاريخ الآخر لفلسطين، غير ذلك التّاريخ (المشكوك بأمره) الذي كتبه في أحسن الأحوال مؤرّخون مذعورون قاموا بدفن الحقائق.
جمعتني قبل فترة جلسة حميمة مع أحد هؤلاء الحكّائين الطّاعنين في السّن، وقد روى على مسامعي إحدى حكاياته الأثيرة التي حدثت معه في أواسط الثمانينيّات من القرن الماضي. قال (وأنا هنا أوجز الحكاية من دون ذكر التّفاصيل): "في تلك الفترة تلقّيت تصريحاً من أختي المقيمة في مخيّم الجلزون تدعوني من خلاله لزيارة البلاد، وبالفعل فقد هيّأت نفسي لهذه الزيارة. يا عمّي رؤيتك لفلسطين بعد كلّ تلك الأعوام الطويلة تحتاج لشجاعة خاصّة! فأنت حين تلتقي شخصاً عزيزاً عليك بعد غياب طويل تهتزّ مشاعرك، فما بالك بلقاء فلسطين"!!!
قال الجملة الأخيرة وبدأ ينتحب. صمتَ قليلاً وواصل رواية الحكاية، قال: "بعد ثلاثة أيّام من وصولي الجلزون، قلت لأختي: ما رأيك يا حاجّة بمشوار صغير ترافقينني فيه؟ قالت: إلى أين إن شاء الله! قلتُ لها نذهب إلى بيتنا في العبّاسيّة. استأجرنا إحدى السيارات، واصطحَبَتْ أختي معها عدداً من أحفادها. وصلت السيارة إلى القدس، ثمّ اتّجهت ناحية الشمال الغربي مارّةً بقرية لفتا فقرية قالونيا فقرية أبو غوش فكامب اللطرون فالرملة واللد فقرى يافا. وهناك وجدتني أرشد السّائق قائلاً له: تعال من هنا، وانعطف من هنا"، ثمّ فرد كفّه أمامي قائلاً: "أنا أعرف البلاد كلّها كما أعرف خطوط يدي هذه. فجأة قلت للسائق قف هنا. لم يخفَ عليّ الأمر، فقد وصلنا البيت". سرد الشيخ بعد ذلك وقوفه عند بوّابة البيت، والدّموع التي سكبها الجميع، ثمّ تحدّث عن المرأة اليهودية اليمنية التي تسكن البيت، والتي قالت له باللغة العربية: يا خبيبي هذا البيت ليس لي ولكنني استأجرته من (الدّولة). "قلت لها: أيّ دولة هذه يا مجنونة، ثمّ أشرت إلى بقايا عربة ما تزال مركونة في الحوش منذ العام 48، وقلت مخاطباً حشداً من الأرواح الغابرة التي رأيتها تملأ المكان: تعرفون جميعكم الحنطور الذي كنت أعمل عليه في شوارع يافا؟ هذه هي بقاياه يا أحبّتي، وهذا هو بيتي الذي بنيتُه بيديّ هاتين"، ثمّ انخرط في البكاء.
تلك الحكاية التي سمعتها رجّتني من الأعماق، والأكثر من ذلك أنّها غسلتني كما غسلت الآخرين الذين حضروا السهرة من أيّ أوساخ اسمها (إسرائيل)، ففجأة ذاب علمها، ونفقت دبّاباتها مثل كلاب جرباء، وتوصّلتُ إلى النتيجة التالية: إننا في الوقت الذي نطردها فيه من داخلنا، لا يكون لها وجود حاسم وحقيقي.
المزعج في الأمر أنّ جيل أولئك الحكائين قد بدأ بالانقراض. منذ مدّة لم أسمع حكاية جديدة. هل ثمّة من يحفظ تلك الحكايات؟

[email protected]