يدنّسون الدين ويقدّسون السياسة

يفيد المؤرخ اليهودي والأستاذ في جامعة تل أبيب شلومو زنذ، مؤلف كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، وكتاب "اختراع أرض إسرائيل"، وكتاب "كيف لم أعد يهوديا"، أن الدين والدولة في إسرائيل تماهيا ("الغد"، 13/ 8/ 2016) بعد تحول إسرائيل نحو اليمين الديني الذي يقوده الحاخامات والأحزاب الدينية المتطرفة. وبهذا يتم تديين السياسة وإضفاء طابع القداسة عليها (بالدين)، وتسييس الدين بإضافة طابع الدناسة عليه (بالسياسة). اضافة اعلان
لقد نشأت إسرائيل التي ظلت "مزعومة" عربياً حتى العام 1967، ثم إسرائيل التي ترفض الانسحاب إلى خطوط الخامس من حزيران (يونيو) 1967 بعدها، ثم إسرائيل التي ترفض السلام بعد العام 1973، ثم إسرائيل المعترف بها بالمبادرة العربية، على يد اليهود العَلْمانيين الذين ظلوا يفصلون بين السياسة والدين، وإن انطلقوا صهيونياً منه (أرض الميعاد).
ربما كان لبروز الأصولية الإسلامية في العقود الماضية والإرهاب باسمها تأثير ما في بروز الأصوليات الدينية في العالم. فقبل هذا البروز كان المشهد السياسي في بقية العالم -إجمالاً- عَلمانياً، أي يفصل بين الدين والسياسة، ويحمي حرية التعبير للناس كافة بالقانون والممارسة.
ولعله لهذا وجد المسلمون المهاجرون واللاجئون الفارون من بلادهم الدكتاتورية، أمناً جسدياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً في أوروبا وأميركا، فأقاموا المساجد والمراكز الإسلامية في كل عاصمة ومدينة، بحرية تامة ورحابة صدر عز نظيرهما في تاريخهم، إلى أن صارت "القاعدة" و"داعش" يهددان أمنهم وبقاءهم هناك بتفجيراتهما الإرهابية في الغرب. ولعل اغتيال إمام المسجد ومساعده في نيويورك قبل أيام، والحكم على أنجم شودري في لندن، هما بداية المسار العكسي لوجود المسلمين هناك. وفي إسرائيل صارت الفتاوى الدينية اليهودية تسمح لإسرائيل بإصدار أشنع وأبشع القوانين العنصرية ضد بقايا الشعب الفلسطيني وإضفاء القداسة عليها.
تستخدم إسرائيل، منذ نشأتها إلى اليوم، استراتيجية خاصة ضد الفلسطينيين المسيحيين لـ"تطفيشهم" في الآفاق، في سعي محموم منها لجعل المعركة/ الحرب في المنطقة تبدو وكأنها بين الإسلام والمسيحية، وأن إسرائيل هي القاعدة الأمامية في هذه الحرب، التي يجب دعمها بها لتفوز. لقد كانت نسبة الفلسطينيين المسيحيين في فلسطين حتى العام 1948 نحو 20 % من السكان أو أكثر، ولكنهم اليوم لا يتجاوزن 2 %، وبخاصة بعد ضغوط الإسلام الإرهابي و"القاعدة" و"داعش" في سورية والعراق عليهم بالإبادة والتهجير.
وحسب تقرير مركز "مدار" في رام الله، والذي أعده الأستاذ برهوم جرايسي؛ الكاتب في "الغد"، وأحد فلسطينيي 1948 المسيحيين الباقين الجاثمين على صدر إسرائيل، فإنه يوجد على جدول أعمال الكنيست 82 قانوناً عنصرياً داعماً للاحتلال (قل الاغتصاب)، بالإضافة إلى قوانين مقررة سابقاً. ومن تلك القوانين، 23 قانوناً لدعم الاستيطان، دخل اثنان منها حيز التنفيذ، و11 قانوناً تستهدف "تطفيش" فلسطينيي 1948 والقدس، بتسريع الإجراءات اللازمة لتدمير آلاف البيوت المبنية على أرض أصحابها ولكن من دون ترخيص لا تسمح به إسرائيل، رغم حاجة الأسر الفلسطينية الجديدة الملحة إلى سكن.
هذا بالإضافة إلى ثلاثة قوانين تستهدف الضفة الغربية، وستة قوانين تستهدف تعطيل مؤسسات المجتمع المدني التي تدافع عن حقوق الإنسان. علاوة على حصار قطاع غزة الخانق. وليكون الحل الوحيد المعروض على هذا الشعب المحاصر من جميع الجهات، داخلياً وخارجياً: ارحلوا، ونحن نساعدكم على الرحيل!
بهذا الدمج بين الدين والسياسة في إسرائيل؛ أي بتدنيس الدين وتقديس السياسة، لا يجرؤ على معارضتها أحد. هل تستطيع المعارضة في أي بلد تسيطر عليه هذه المعادلة التصدي لسياسته العنصرية واللانسانية؟
تهدف الأديان في الأصل إلى سعادة الإنسان، وحل مشكلة المعرفة، وإضافة المعنى للحياة الإنسانية. ولكنها بالسياسة تصبح مصدر شقائه. وأعتقد أن بداية انهيار إسرائيل تبدأ من هنا.