يهودي أميركي ينظر في القضية الفلسطينية

20190817T211141-1566065501667601100
20190817T211141-1566065501667601100

جيف كوبر* - (كاونتربنتش) 2/8/2019
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

علموني، منذ الطفولة المبكرة، أن إسرائيل تأسست لتكون ملاذاً آمناً لليهود، وأنها بالنسبة لي، مكان آمن في عالم لا يمكننا -نحن اليهود- أن نعتمد عليه. ولكن، هل يمكن لإسرائيل -ليس إسرائيل المجازية، وإنما إسرائيل في واقعها الحديث وحاضرها المادي- أن تكون ملاذاً لي حقاً، هذه الأرض لـ"مواطنين" إسرائيليين من درجة أولى وثانية؛ هذه الأرض لطرف يمارس الاحتلال وآخر خاضع للاحتلال؟ أرض حظر التجوال، وبطاقات الهوية، والإذلال، والخوف، وطرق الأبواب في كل آن، والسجن، والضرب، والرصاص، والغاز المسيل للدموع، وإغلاق المدارس، ومصادرة الأراضي، وتدمير المنازل -والآن، الهجمات الصاروخية العشوائية على المنازل المدنية… أين هو العدل، والإنسانية، واحترام الحياة كلها، والتي علموني أنها تقع في جوهر اليهودية؟ أين هي الأخلاق في أن أطالب، كحق لي، بالعيش في منزلي من دون خوف، عندما لا أكون مستعداً لإتاحة هذا الحق نفسه للآخرين؟ للفلسطينيين؟

  • * *
    أنا يهودي، يهودي غير متدين من أصل أوروبي، أعيش في الولايات المتحدة الأميركية. وإذن، ما هي صلتي بإسرائيل، وأي حقّ لي في أن أتحدث؟ يمكن أن يكون من المغوي أن أنأى بنفسي عن صراعات العرب الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، التي تجري في مكان بعيد. لكنّ لديّ، كيهودي، الكثير من الأسباب التاريخية، وعلاقة بإسرائيل، واستثمارا في الأيديولوجيات التي شكلت ذلك البلد. وهو كذلك لأن إسرائيل تزعم لنفسها الحق في التحدث نيابة عن كل اليهود في جميع أنحاء العالَم. وأكثر من ذلك، تبرر إسرائيل أفعالها باسم الحفاظ على بقائنا على قيد الحياة كشعب. إذا التزمتُ الصمت، فإنني أكون في حالة موافقة ضمنية… وعندما أتحدث بطريقة منتقِدة، سوف يقولون لي أن صوتي لا يتمتع بالشرعية -"أنا لستُ إسرائيلياً". وإذن، كيف يمكن لي أن أفهم؟ بل إن هذا يتجاهل المعارضة الكبيرة للاحتلال في داخل إسرائيل نفسها، التي يتبناها يهود إسرائيليون.
    … أو أنني سوف أُدعى "خائناً"، لأنه يقال لي إن تشكيك يهودي في سياسات إسرائيل واستنطاق أعمالها يعرِّض للخطر -ليس بقاء دولة إسرائيل على قيد الحياة فحسب، وإنما وجود اليهود نفسه أيضاً- وأنه يخون تاريخنا من المعاناة ويتحدى الدروس المستفادة. لطالما أصابني هذا الموقف، الذي يتم اعتناقه على نطاق واسع، وبإخلاص وعاطفة، بالحزن والرعب. إنني أقبل بوجود إسرائيل، لكنني أرى المخاطر كلها في بناء إسرائيل كمجاز للبقاء على قيد الحياة، لأنه موقف لا يستطيع المرء أن يفاوِضه على الإطلاق. إن له تأثيراً مسكِتاً جداً، والذي يستبعد إمكانية المناظرة أو الحوار ويجعلها مستحيلة. لقد استثمرت إسرائيل في مجاز، وهو يحتاج إلى فحص، فحص يجريه اليهود بشكل خاص.
    إنه هذا التصوير لإسرائيل كمجاز للبقاء هو الذي يتيح وجود عمىً معين عن رؤية حقائق سياسات وإجراءات إسرائيل التمييزية والإقصائية والعنصرية ضد الفلسطينيين الذين يشكلون 20 % من سكان إسرائيل، وهو يتيح أيضاً إمكانية وجود عمى معين أيضاً عن واقع الاحتلال العسكري الإسرائيلي للفلسطينيين الذين يعيشون في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، ويسمح بإطلاق تصريحات من نوع "لا يوجد فلسطينيون" أو "جميعهم إرهابيون". إنه يتطلب في نهاية المطاف أن يُنظَر إلى الفلسطينيين -الموجودين داخل إسرائيل، وأولئك الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، وأولئك الذين في الشتات- إذا نُظِرَ إليهم من الأساس، باعتبارهم أقل من بشر -كقتلة وإرهابيين وجزء من كتلة بلا وجه، وإنما ليس كنظراء وزملاء في الجنس البشري، والذين يستحقون الاحترام والمعاملة العادلة- حتى يمكن الحفاظ على إسرائيل باعتبارها مجازاً للبقاء على قيد الحياة.
    وما الذي يفعله هذا لثقافة الاحتلال؟ يقال إن إسرائيل "تخلق التهديد لبقائها نفسه من خلال إصرارها على البقاء بأي ثمن"… بأي ثمن !!!… وهذه كلمات فظيعة لأنها تعني أنه يترتب على الإسرائيليين، في خضم الكفاح من أجل البقاء، أن لا يسمحوا لأنفسهم بأن يشككوا، أو يستنطقوا، أو يفكروا بما يتم فقدانه. وعلى مستوى أكبر، تعني هذه الكلمات الرهيبة أنني، بصفتي يهودياً، وجميع اليهود في جميع أنحاء العالم، لا ينبغي أن نستنطق السياسات والإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. لكنّ عليّ، بالضبط لأنني أحترم نفسي وهويتي أن أستنطق السياسات والإجراءات الإسرائيلية. وأود أن أزعم أن هؤلاء اليهود الذين يرفضون التشكيك في قادتهم أو انتقادهم هم وسياساتهم وأفعالهم هم من اليهود الذين يخشون القبول بفكرة أن اليهود ليسوا أناساً مثاليين، وأن اليهود يمكن أن يخطئوا وأنهم يخطئون فعلاً. كيف لا يستطيع أي يهودي يحترم نفسه أن لا يتحدى الفجور والمظالم التي يرتكبها أبناء جلدته من اليهود؟ ولذلك، ليس هؤلاء اليهود الذين ينتقدون إسرائيل على أساس ما يعتبرونه أسباباً أخلاقية "يهودا كارهين لأنفسهم"؛ إنهم في الحقيقة "يهود محترِمون لأنفسهم".
    مَن يستطيع أن يفهم أكثر من يهودي عاش في الخمسينيات أن يفهم حقوق اللاجئين واحتياجاتهم؟ كان غض الطرف عن محنة اللاجئين الفلسطينيين في حربي العامين 1948 و1967 -الحروب التي لم يكن الفلسطينيون هم الذين بدأوها- أو تبرير إنكار حقهم في العودة إلى ديارهم، إلى بلدهم، شؤوناً غير أخلاقية، وكانت غير مبررة- آنذاك والآن.
    لقد علموني، منذ الطفولة المبكرة، أن إسرائيل تأسست لتكون ملاذاً آمناً لليهود، وأنها بالنسبة لي، مكان آمن في عالم لا يمكننا -نحن اليهود- أن نعتمد عليه. ولكن، هل يمكن لإسرائيل -ليس إسرائيل المجازية، وإنما إسرائيل في واقعها الحديث وحاضرها المادي- أن تكون ملاذاً لي حقاً، هذه الأرض لـ"مواطنين" إسرائيليين من درجة أولى وثانية؛ هذه الأرض لطرف يمارس الاحتلال وآخر خاضع للاحتلال؟ أرض حظر التجوال، وبطاقات الهوية، والإذلال، والخوف، وطرق الأبواب في كل آن، والسجن، والضرب، والرصاص، والغاز المسيل للدموع، وإغلاق المدارس، ومصادرة الأراضي، وتدمير المنازل -والآن، الهجمات الصاروخية العشوائية على المنازل المدنية… أين هو العدل، والإنسانية، واحترام الحياة كلها، والتي علموني أنها تقع في جوهر اليهودية؟ أين هي الأخلاق في أن أطالب، كحق لي، بالعيش في منزلي من دون خوف، عندما لا أكون مستعداً لإتاحة هذا الحق نفسه للآخرين؟ للفلسطينيين؟
    لقد طرحت هذه الأسئلة، وقيل لي ما يلي: "نعم، إنه أمر فظيع: إنه ليس ما أردناه، وليس ما كان في بالنا. ولكن، أولاً يجب أن نبقى على قيد الحياة، يجب أن نضمن بقاءنا ومن ثم يمكننا بناء ديمقراطية خالية من العنصرية، والتي تعيش في سلام مع جيراننا". لا أفهم كيف يمكن أن يكون هذا صحيحاً. إن البقاء على قيد الحياة هو عملية، والتي يتم خلالها تشكيل شخصية وأخلاقيات الأمة وثقافتها. والهوية ليست ساكنة، وليست محبوسة في التاريخ؛ وسيكون لما نفعله الآن تأثير على ما سنكون عيه كشعب. فأي تأثيرات ستكون لتفكيرنا وتصرفاتنا على ماهية اليهود وكينتونتهم في القرن الحادي والعشرين؟
    لقد نشأ جيل من اليهود الإسرائيليين، والفلسطينيين الإسرائيليين، والفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وكبروا بالكامل في مناخ الحرب الوحشي وغير الإنساني. ويترك العنف والكراهية علامات قوية على أرواح هذا الجيل. وكما لاحظ أحد الكتّاب الإسرائيليين، فإن "التحامل والمواقف السلبية التي يطرحها اليهود والعرب ضد بعضهم بعضا هي أمور يرضعونها من الطفولة مع حليب أمهاتهم. إنها تتخلل اللغة والمفردات والأدب والمعتقدات التقليدية المقبولة على نطاق واسع ونادراً ما يتم التشكيك فيها". فهل سيكون هذا هو الجيل اليهودي الإسرائيلي الذي سيبني المجتمع الديمقراطي الذي يروج للسلام ويكون خالياً من الهياكل التي تميز ضد الناس على أساس طبقتهم وعرقهم ودينهم وجنسهم الاجتماعي؟
    مؤخراً، قال طفل فلسطيني من الأراضي المحتلة، صبيٌّ بعمر 12 عاماً: "في المرة الأولى التي رأيت فيها يهودياً، ارتجف قلبي من الخوف. ولكن، في كل مرة بعد ذلك رأيت فيها يهودياً، امتلأ قلبي بالغضب". هذه الحلقة من الغضب والخوف موجودة على كلا الجانبين ويجب كسرها. وكلما طال أمدها، ارتفعت التكلفة على اليهود والفلسطينيين على حد سواء. وأنا أقوم باحتساب التكلفة. إن ما هو على المحك هنا بالنسبة لليهود الإسرائيليين، وبالنسبة لنا نحن اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل، هو أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة -إنه يتعلق بشروط ونوعية ذلك البقاء.
    إنني لا أقبل فكرة أن إدانتي لأعمال إسرائيل تجاه فلسطين هي خيانة لتاريخي وهويتي اليهودية، أو أنها خيانة لليهودية. على النقيض من ذلك، إن القيم اليهودية التي تعلمتها تُعرِّف هويتي بصفتي يهودياً يجل العدالة والحياة الإنسانية -كل الحياة البشرية بلا استثناء. وهذه القيم اليهودية تُلزمني بتحدي الظلم واللاإنسانية في كل مكان، حتى عندما يكون شعبي هم الذين يرتكبون هذه الأعمال. لا يمكنني أن أقبل بأن تُستخدم مأساة المحرقة لتبرير عنف ووحشية الاحتلال الإسرائيلي وإساءة معاملة المواطنين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل؛ إنني لا أستطيع أن أتحمل اختزالها إلى هذا الشكل… وأن تكون هذه هي نتيجة ذلك الهول.
    إنني آخذ إرثي وأضمه عزيزاً في القلب -تاريخ عائلتي، تاريخ شعبي. إنه جزء أساسي مما يشكلني ويشكل علاقتي بالعالم.
    والسؤال الحاسم هنا، جوهر المسألة، هو كيفية البناء على هذا التاريخ لتشكيل حاضر ومستقبل مختلفين، أكثر إنسانية وعدلاً، حاضرٍ ومستقبل -لليهود، للفلسطينيين، وللعرب، وفي الحقيقة لنا جميعاً، لأن هذا هو السبيل الوحيد لضمان البقاء على قيد الحياة، وسيادة العقل، وإتاحة عالَم صالح للعيش.

*أقام وعمل لمدة 4 سنوات تقريباً في مدينة رام الله بالضفة الغربية خلال الانتفاضة الأولى، وعمل عن كثب مع التربويين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، من سن الروضة إلى 12 عاماً (في المدارس الحكومية والخاصة والأونروا)، في تطوير الممارسات التربوية التقدمية. كما درَّس التاريخ في مدرسة ثانوية في رام الله.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: An American Jew Looks at the Palestine Question