يوم واحد للصدق

لا يحتاج الأمر، عيداً للكذب، في أول كل نيسان، بل ربما يوما واحدا للصدق!
يوما نقف فيه لنقول: ياااااااه كم كذبنا في هذه السنة!
ونعيد ترتيب أرباحنا غير الحلال: هل أحبتني امرأة وأخلصت لي بفضل كذبة وشوشتها إياها؟ هل استمتعت بنزهة جبلية مريبة وقلت لزوجتي أنني كنت أكدّ في ساعات العمل الإضافيّ! هل بعت للناس سكّرا مغشوشا ومقالات فاسدة وفاكهة لا يليق تقديمها للضيوف!اضافة اعلان
ربما نحتاج كل سنة إعادة ضبط ساعة القيم، وميزان تقدير الأمور، وفرز كذباتنا البيضاء عن تلك الغامقة، أو القاتمة!
سأتذكرّ أنني جاملت امرأة قليلة الحظ بامتداح طلّتها، وقلت لأطفالي إن الجو في العقبة بارد جداً ولا يصلح للسياحة، وتنهدت إعجاباً بفيلم سطحيّ لم يعجبني وأصرّ صديقي أن نحضره،... أنتم تعرفون حتماً أنه ليست هذه الكذبات التي أقصد!
الكذبات التي لا تشوّش حياة أحد، ولا تفضي إلى ضرر أو خراب، ليست هي التي تعطب أرواحنا وتصيبها بالخدوش، وليست هي التي تجعلنا نصاب بإحساس الآثمين والمخطئين، لكن الكذبات الكبيرة التي تحدث غالبا في العلاقات الإنسانيّة والعاطفيّة هي أكثر ما يصيب الروح بالمرض، وربما روح من كَذَب قبل روح من تعرّض للكذب!
ليس مريحاً أبدا إحساس الشخص الكاذب، وربما كلّنا جربنا هذا الإحساس، حين تشعر بأن لديك رغبة عارمة للاغتسال من شيء ما!
إذاً .. لنفكر مرة بعيد للصدق!
لنحتفل في يوم ما، ولأنه ليس عيدا وطنيا؛ فلكل شخص أن يحدد يومه حسب رزنامته، فيمكن أن أختار يوم ميلادي، وتختار عيد زواجك، أو تخرجك، أو ذكرى وفاة أمك!
ويكون يوماً لتفقد الإصابات التي لحقت بأرواحنا على مدار سنة، يوماً سنوياً لصيانة القلب، وإعادة تشغيله، نفض الغبار عن زوايا معتمة في دواخلنا، يمكننا أن نغسلها بالضوء وبالقرآن وبالرضى!
يوماً نحتضن فيه أولئك الذين كذبنا عليهم، نعانقهم بصدق، نهمس في آذانهم بكلمة حنونة، وقد نبكي على أكتافهم، لنعود بدواخل مبهجة ولامعة، وبإحساس بالتوازن، وبروح اغتسلت .. ولو مرة في السنة!
و .. نحتضن أنفسنا، أرواحنا التي تشققت من التأنيب، نهدهدها، نربت عليها، ونهمس لها أننا في السنة الجديدة المقبلة لن نرهقها بتحمّل آثام جديدة!
ربما نستطيع في هذا اليوم أن نواجه أنفسنا بفروسية كنّا ندّعيها طيلة السنة، نواجهها بالاعترافات.. وإذا كانت الاعترافات ضخمة ومروّعة، وكفيلة بأن تودي ببعضنا لمصحّة نفسيّة، فأقلّ ما يمكننا أن نفعله، هو أن يجتمع كل واحد بنفسه، اجتماعا بالغ الخصوصيّة والكتمان، ويقول بصوتٍ واضحٍ لا رجفة فيه: سأضع الليلة كل كذباتي أمامي، وأقلّبها، فإما أن أصدّقها .. وإما أن أنهي الاجتماع بكذبة جديدة: تعبتُ، سأنام الآن، وأجتمع معي غدا!
يوم واحد فقط أثبت فيه كل تلك الصفات التي نسبتها لنفسي على مدار سنة كاملة، وأبرهن أنني كنت أستحق ذلك الاحترام الذي حظيت به، وتلك المحبة التي غمرني بها كثيرون، واستحق تلك الابتسامات التي أهداني إياها مارّة عابرون أو أصدقاء أو جيران يشاركونني مصعد البناية!
يوم واحد نستطيع فيه أن نصلّي بحبّ، ونطلب المغفرة، ونترك الملاك الجالس على الكتف الأيسر بلا عمل طيلة النهار!
هو يوم فقط؛ نحاول فيه أن نكون شفافين مثل كأس الماء، لا نعكّر صفو أحد، ولا نأكل من رغيفٍ ليس لنا، ولا نشتهي بيتاً غير بيتنا، وأن نفهم: أن ما نفوز به بالكذب علينا أن نظلّ نكذب ونكذب ونكذب لنظلّ محتفظين به!