1990

كانَ صيفا دراميا؛ انتهى الجزءُ الثالثُ من مسلسل "ليالي الحلمية"، ليبدأ الجزء الثاني من "حرب الخليج". نامَ العربُ، كلُّ العربِ، على رتابة تموز (الشهر المقرون بالثورة والتغيير في التاريخ العربي الحديث). وما خدَشَ هدوءَه إلا استشهاد ثلاثة فلسطينيين أو أكثر، في يوم شديد العادية من الجزء الأول لـ"الانتفاضة"، ووساطة عربية، جادَّة تماما، لإنهاءِ خلافٍ حدودي "عابر" بينَ العراق والكويت!

اضافة اعلان

أفاقَ العربُ على دخول العراق إلى الكويت؛ فاختلفَ كلُّ العربِ على وصفه؛ فهو "غزوٌ" و"اجتياحٌ"، أو "عودة الفرع إلى الأصل". ولما عجزَ "مختارُ الصِّحاح" و"المُنْجد" في الوصول إلى صيغة توافقية ترضي بعضَ العرب، احتكمَ البعضُ الآخر إلى معجم "Dictionary"، وما كان يفهمُ "لغة الضاد" جيِّدا؛ فانتهى الأمرُ إلى حالة، من سبعة أشهر، عصيَّة على الإعراب!!

ونحن، العرب/ الناس، كان لنا ما نختلفُ عليه؛ خرَجَ كثيرون في مظاهرات تبشِّرُ بحرق نصف إسرائيل (وارتابت الأمهاتُ من سيرة الكيماوي، فقمْنَ بإجراء احترازي يقضي بإحكام إغلاق الشبابيك والثقوب من حولها بملصق شفاف!). ووقفَ قليلون ضدَّ التيار، وطلبوا مهلة للعقل (وانشغلَ الآباءُ بافتراض سيناريوهات الحرب الثلاثينية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كلها انتقصت كثيرا من هيبة قائد عملية عاصفة الصحراء الجنرال نورمان شوارزكوف!).

...وكنا صغارا نسكنُ في "حولي"، أو "الفروانية" أو "خيطان" (ويتطرَّفُ بعضنا في الخيار الشعبي فيسكنُ الحساوي)، لدينا جيرانٌ أقباط من الصعيد المصري نحبهم، ونتبادلُ معهم أشرطة الفيديو لأفلام عادل إمام، ومسرحيات أحمد بدير، ولبنانيون لديهم دائما فتاة جميلة نتورَّط بحبها جميعا؛ لكنها "تستلطفُ" ابن الجيران الفتى السوري...، الوسيم!

نختلفُ كثيرا في الملعب، ونصرُّ على تقسيم أنفسنا بناءً على "الوطن الأصلي"؛ وغالبا ما تنتهي المباراة بخسارة الطرفين: فريق يُهزمُ في الملعب، وآخر في العراك اليدوي بعد اللعبة. وفي الثاني من آب (أغسطس) 1990، عدنا إلى أوطان أصلية لم نولد فيها، ولا نعرفها إلا بالإجازة الصيفية. خرجْنا ولم ينتظر كثيرون، في غمرة الرعب، مصير "تحويشة العُمْر". وأسرَعَ البعض في الهروب، ولم يتأخر أحد للوداع في مرحلة كانت أغنيتها الذائعة: "شلون أودعك يا العزيز وبيدي أحجز للسفر"!

"انتهت الحرب" وعاد الكويتيون إلى الكويت، وخرَجَ عراقيون من العراق. اجتهدنا جميعا في مزاولة الحياة من جديد، كان علينا أنْ نقفزَ فوق الانكسار والشرخ التاريخي؛ وبقليل من الزمن تجاوزنا الماضي الذي كان قريبا.

هكذا ببساطة مرَّ عشرون عاما. عقدان موغلان في التاريخ، مشى في مياههما زمن كثير؛ هَرْوَلت السياسة بعيدا في السقوط إلى الأمام، والحياة (حتى ما كنا نظنها الدنيا مضَتْ إلى ما هو أدنى)...، وجنون التكنولوجيا وحده يكفي لأن نقول الآن: قبل مائة عام كان الجزء الثاني من حرب الخليج!

فهمنا الحياة دفعة واحدة (والذين كانوا صغارا تحرَّجوا من قبلة المجنَّد الأميركي لرفيقته المجندة، من فمها). ونشتاقُ اليومَ، بعدما صرنا كبارا، إلى زمن كان الشهداءُ فيه يموتون بوقار، بعيدا عن كاميرات الهواتف المحمولة النهمة، في سعيها المحموم لتغذية فضول "اليوتيوب"!

انتهى (زمان) الجزء الثاني من حرب الخليج. وكان غامضا، ولم يكن يشي بثالث. واحتجْنا إلى أكثر من حرب خاطفة لفهمه، خصوصا أننا لم نتوقف كثيرا عند الجزء الرابع من "ليالي الحلمية"، ولم نصغِ بشكل جيِّد لـ"علام السماحي" وهو يلخص الحربَ: "عربي اللي بيضْرَبْ، وعربي اللي ينْضِرِبْ".

[email protected]