كشف العدوان الآثم على قطاع غزة من قبل الكيان المحتل، وأعاد التذكير كذلك، بأنّ لغة الخطاب الموجهة للمجتمع الدولي وللإعلام العالمي في الوقت ذاته مهمة للغاية؛ ذلك أنّ الالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان وفي إطار القانون الدولي الإنساني قد لا تكون كافيةً بذاتها كنصوص جامدة في الوصول إلى أذهان المتلقين وتطويعها مع ما يحدث على أرض الواقع وبيان مدى بشاعة مخالفتها وانتهاكها وعواقب ذلك على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية كافة.
في ظل هذه المعطيات تبرز أهمية لغة الخطاب الموجهة للعالم المستندة إلى دلالات حقوقية ومبادئ دولية راسخة وجوهرية ولكن بأسلوب قادر على محاكاة الذهنية الإنسانية بأبعادها كافة، وعلى اختلاف أنماطها وأصولها، والطرق على مفاصل إنسانية وقانونية وحقوقية تظهر خطورة المشهد القائم أو ما قد ينتج عنه.
هذا وذاك هو ما يستدعي قراءةً في المشهد الخطابي الذي برز خلال لقاء الملكة رانيا العبدالله مع الإعلامية مارغريت برينان على إحدى القنوات. وما سأقف عنده في هذا الشأن ثلاثة مبادئ دولية حقوقية قانونية، أمست جزءا مهمًا من النظام القانوني الدولي.
هذه المبادئ تم تكريسها من قبل الملكة رانيا خلال لقائها ووضعها في إطار خطابي قادر على إخراجها من سياقها وقالبها الجامد وصولًا إلى إبراز مضامينها بنهج متسلسل يحدث فارقًا لدى المتلقي في فهم جوانب القانون الدولي وضرورة الالتزام به والمتمثلة في الإفلات من العقاب كانتهاك جسيم لحقوق الإنسان، والدفاع عن النفس واشتراطاته، وأخيرا ثقافة السلام وبناؤها.
أولًا: الإفلات من العقاب والتصدي له يعد مبدأ من أهم المبادئ على الصعيد الدولي؛ لذا فإن الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان كرّست التزامات على الدول للتصدي لهذه الفكرة، لا بل إن أحد أبرز أسباب إنشاء المحكمة الجنائية الدولية (نظام روما الأساسي) كان بهدف ترسيخ مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية لقادة الحرب ومسؤوليها بعد أن كان هؤلاء يتذرعون ويقفون خلف دولهم باعتبارها المسؤولة فقط عن أفعالهم، وهنا كان هذا المبدأ حاضرا في لقاء الملكة رانيا، وتم تكريسه في سياق المشهد الدولي كما يراه ويسمع عنه المتلقي وصولا إلى بيان آثاره، وهو ما تمت الإشارة له وفق الآتي: «الولايات المتحدة الأميريكية قد تكون أقرب حليف لإسرائيل، لكن الصديق الجيد يحاسب صديقه متى وقع في الخطأ، لا تعطيهم تفويضا مطلقا عندما لا يقومون بالشيء الصحيح، وأعتقد أنه عندما لا تتم محاسبة إسرائيل فإن ذلك يضر بها كثيرا لأنه يخلق ثقافة الإفلات من العقاب.. وهذا هو الوضع منذ عقود حيث يشعرون أنهم الاستثناء لكل معيار وقانون دولي...».
ثانيًا: ذريعة الدفاع عن النفس، وهي الذريعة التي استخدمت من الكيان المحتل منذ نشأته وهو الأمر الذي أقرت محكمة العدل الدولية بعدم انطباقه على إسرائيل، إلا أنها لم تتوقف يوما عن استخدام هذه الحجة كمبرر لانتهاكات كبرى وجسيمة قامت بها؛ هذه الذريعة كان تفنيدها في اللقاء بنهج مستند إلى الأرقام ومحاكاة واقع ما يحدث في غزة، وهو أمر ضروري أن يصل إلى عقل وذهن المتلقي أو المشاهد على مستوى العالم لإخراج المبدأ من حالته الصمّاء حيث تمت الإشارة في اللقاء»... تقول إسرائيل إنها كانت حربا دفاعية، من الواضح أن السابع من تشرين الأول هو ما أشعلها، إلا أن الطريقة التي تتم المحاربة بها ليست دفاعية؛ 60 % من المنازل دمرت، و80 % من المرافق الطبية والمدارس دمرت، هل من المفترض أن نصدق أن محاربا من حماس كان في كل واحدة منها؟...».
ثالثا: ثقافة بناء السلام، من المبادئ الجوهرية التي قام عليها القانون الدولي ولمحوريته في انتظام حياة الشعوب والأمم جاء الميثاق التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، ليقر بأنه لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام. هذا المبدأ الجوهري الذي كان حاضرا في اللقاء بمحاكاة لواقع ما يحدث وتناقضاته، حيث أشارت الملكة خلال اللقاء «السلام لا يتعلق بالسياسة فقط، بل بالناس أيضا ويتعلق بالثقافة والحالة الذهنية.
يتعلق الأمر بإختيار التسامح بدلا من الشك واختيار التسوية والمصالحة بدلا من الوعد الزائف بالنصر ..».
هذه مجموعة من الدلالات والمبادئ الحقوقية الكثيرة التي كرست خلال اللقاء، وما يتوجب الوقوف أمامه مليًا أن الأردن نجح في أن يغير لغة الخطاب العالمي نحو القضية الفلسطينية عموما وما يحدث في قطاغ غزة بشكل خاص، وذلك من خلال الرؤية الملكية القائمة على فهم عميق لآليات مخاطبة الرأي العام العالمي.
للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا