"الزنانات".. إلحاح على ضرورة الحرية..!

يندر أن نستمع على الشاشات إلى تقرير لصحفي في غزة، أو نشاهد عملية للمقاومين ضد جيش العدو هناك ولا نسمع في الخلفية ذلك الأزيز المستمر كل الوقت وفي كل مكان في غزة. ومصدره ما يسميها الغزيون "الزنّانات"- الطائرات غير المأهولة– وإنما القاتلة- التي تحوم فوق الرؤوس من دون أن تُرى في كثير من الأحيان، مثل طيور جارحة معدنية لا تستريح ولا تريح.

اضافة اعلان


تخيل رنينا متواصلًا في أذنيك لا يتوقف أبدًا. هذه الضوضاء التي لا تلين هي حالة مرَضية مزعجة جدًا تُسمى "طنين الأذن". لأولئك الذين يعانون من طنين الأذن، قد يكون الأزيز المستمر مجنونا، لا يقبل بأقل من العبث بنوعية حياتهم وصحتهم العقلية. وفي الأدبيات الطبية، يمكن أن تؤدي الضوضاء المستمرة إلى صعوبة في التركيز والنوم، ويمكن أن تزيد بشكل كبير من مستويات التوتر والقلق. ويصف المصابون به شعورًا بالحصار المطبق على الذهن، حيث لا مهرب من الصوت الملحّ الذي لا يمكن لأحد سواهم سماعه.


سوى أن الطنين في غزة حالة مرَض قهرية مفروضة على الجميع، ليس مصدرها خللًا عضويًا داخليًا وإنما عامل خارجي مراوغ وقاهر مثل ذبابة ثقيلة الدم، يديرها جلادون في مكاتب بعيدة لترسل همهماتها الميكانيكية الرتيبة كخلفية؛ كموسيقا تصويرية مرعبة للحياة اليومية في القطاع المعذّب. ومثل أي دراما سوريالية، تكثف الموسيقا التي تدق على الأعصاب الإحساس باللاطبيعية، وتذكّر بالتهديد، واللامتوقع، والترقب الحذِر.

 

في زنازين التعذيب في كل مكان استبدادي، يستخدم الجلاوزة صوتًا رتيبًا لا ينقطع لإهلاك الجهاز العصبي للسجين. وفي غزة، أكبر سجن مفتوح في العالم، يخضع السجناء لهذا التعذيب كروتين. والفكرة هي التذكير الدائم بأنك مراقب كل الوقت– بل وهدف محتمل للقتل في أي لحظة، حيث "الزنانة" قناص بارع بذكاء اصطناعي فائق وبلا قلب، قد يستهدفك برصاصة أو صاروخ في أي لحظة.


في التوصيف الطبي المثالي، ينبغي أن يعمل الطنين على الجهاز العصبي. وينبغي أن يؤدي إلى الإجهاد المزمن، والقلق، والشعور بالعجز. ينبغي أن يؤدي إلى تعطيل أنماط النوم، وتقليل القدرة على التركيز، وخلق شعور سائد بالتململ وعدم الارتياح، والضعف وفقدان الأمان. وفي النهاية، ينبغي أن تؤدي اليقظة المستمرة الإجبارية، تحت المراقبة والتهديد بالموت، إلى صدمة نفسية مُقعِدة طويلة الأجل، يصنعها العيش في حالة من القتال والهروب.


في غزة، يؤكد الحضور غير المنتهي لهذه الآلات "الزنانات" بواقع السيطرة والتقييد. وربما أراد الكيان الاستعماري أن يرى من كثرة "الزن" مجتمعًا خائفًا فاقد الاتزان، جاهزًا للاستسلام. لكن "الزنانات"، على النقيض من التداعيات الموصوفة لـ"طنين الأذنين"، صنعت نوعًا فريدًا من الصمود. فقد تعلم أهل غزة العيش مع الصوت، وعثروا على لحظات من الفرح والاتصال برغم الطنين القاهر. وأصبحوا ماهرين في التكيف بطريقة تسمح لهم بالتمسك بإنسانيتهم، حتى تحت المراقبة والتهديد اللاإنسانيين.

 

وهم يحتفلون، ويسيرون في الأسواق، ويضحكون ويغنون ويتزوجون، ويقاتلون وكأنّ الزنّانات وما تمثله عنصر أمكن تحييده، وكأنّه غير موجود.


تحت الزنانات، أصبحت كل لحظة من الحياة موسومة بإحساس بالإلحاح. ثمة وعي حاد بأن الوقت ثمين، وأن كل لحظة حياة هدية يجب أن تُقدَّر وأن تُعاش. ويصنع هذا الوعي إحساسًا عميقًا بالمجتمع والتجربة المشتركة، حيث الدعم والمشاركة يخلقان القوة التي تسند الصمود الجماعي.


يكبر أطفال غزة مع صوت الزنّانات كحاضر طبيعي. كجزء من بيئتهم، مألوفًا كصوت البحر أو حفيف الشجر. وهم يلعبون ويذهبون إلى المدرسة تحت أعين الزنّانات التي لا تنام، ويطبّعون المعرفة بأن حياتهم تحت المراقبة المستمرة. وإذا استمعت إلى أطفال غزة، سوف تنذهل من البلاغة وبراعة الوصف ومستوى الوعي الذي اجترحوه في ظرف ينبغي أن ينتج أناسًا مشوّهين ضائعين.


كان عمل "الزنّانات" هو الضرب على وعي الغزيين لتذكيرهم بأن الحياة بهذه المواصفات لا تُطاق، وأنها يجب أن تتغير. والتغير لا بد أن يمرّ بالثورة، والعناد، وإعلان تأثير مناقض للمتوقع لعمل "الزنّانات": شحذ الوعي وإيقاظه بدلًا من تخديره.

 

إنها تذكرهم بمن يحجب عنهم طلاقة السماء بالوحوش المعدنية وبما ينبغي أن يفعلوه لكي تتحرر سماء غزة. وهم يعرفون أن ثمة طريقة واحدة لكي ينعموا بالهدوء وسكون الأصوات سوى من تغريد العصافير الطليقة: إسكات مصدر "الزنّانات" وما تمثله، والتخلص من تذكيرها الملحّ بأنهم لا يعيشون حياة حرة طبيعية، والتي ينبغي أن يستعيدوها لأجيالهم، كضرورة حتمية، مهما تكلف الأمر. 

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا