منذ أكثر من عام، يتواصل كل يوم تدفق الأخبار والتسريبات حول ما يسمى "صفقة القرن الأميركية" لتسوية الصراع التاريخي في الشرق الأوسط؛ حيث وصل الى يقين شعوب المنطقة وفي مقدمتهم الفلسطينيون، أن ما يجري الحديث عنه ليس أكثر من تصفية تاريخية ونهائية للقضية الفلسطينية، بينما تبدو الإجراءات الفعلية لوصول "الصفقة" لهدفها تنفذ حاليا على الأرض ضمن سلسلة من القرارات والتطورات، أبرزها ما نال مسألة القدس من نقل السفارة الأميركية الى إزاحتها عن طاولة المفاوضات، كما أعلن الرئيس الأميركي قبل أيام وصولا الى حصار الأونروا ومسألة تصفية الحضور السياسي والاجتماعي لقضية اللاجئين الفلسطينيين ثم وقف الولايات المتحدة المساعدات الأميركية التي كان من المفترض أن تقدم للسلطة الفلسطينية لتنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية في الضفة وقطاع غزة.
كل هذه التطورات السريعة، تجعل المراقب يصل الى استنتاج واقعي مفاده أن عملية التصفية تتم بالفعل وأن تأجيل ما يسمى الإعلان عن الصفقة ما هو إلا جانب من البرنامج الدعائي والإعلامي الذي يمهد للتكيف الإقليمي والدولي مع هذا الحدث. تبدو المسألة ليست مجرد ابتزاز سياسي للقبول بصفقة شكلية، فالجميع سيذهب في نهاية اليوم للتعامل مع حقائق على الأرض، إن أكثر ما كانت تخشاه الإدارات الأميركية وإسرائيل في العقود السابقة، ليس النخب السياسية العربية الحاكمة ولا التحالفات الدولية ولا تناقض المصالح، بل الرأي العام العربي والإسلامي؛ أي الشعوب والجماهير العربية، فلقد كانت أعقد السيناريوهات صعوبة للتوقع تدور حول ردود أفعال الشعوب والجماهير في 59 دولة تشكل ربع سكان العالم، تشير الوثائق الحديثة إلى أن قرار غزو العراق كان مطروحا في السابق ومنذ نهاية التسعينيات، ولكن التوصية بالخشية من ردود فعل الرأي العام العربي أدت الى تأجيله، والعارفون بهذا الشأن يعلمون حجم العمل الدعائي والإعلامي الذي مورس على مدى سنوات للتمهيد للغزو.
اليوم، يبدو أن قراءة الرأي العام العربي والإسلامي باتت مختلفة تماما، فالشعوب التي كانت تهزها جراح الأقصى وأحوال القدس وكانت تقف على رؤوس أصابعها ليلة غزو بيروت، تم تطبيعها على مدى عقدين من الاحتلالات والاستباحة والقتل المجاني والفتن والحروب الأهلية والطائفية، لقد تم اللعب في الجينات السياسية والعاطفية لشعوب المنطقة؛ حتى وصلت الى حالة من اللامبالاة واليأس والخوف من المستقبل، والاسترخاء والتطبيع مع كل ما لم نكن نتوقعه.
إن الرغبة المكبوتة والمعلنة في الانسحاب والاسترخاء في مواجهة الخارج التي تجتاح المجتمعات العربية، مصدرها الحقيقي يكمن في علاقات الداخل بالداخل، قبل علاقات الداخل بالخارج ومنها أشكال تفريغ العنف الذي يمارس منذ أجيال في الداخل في العلاقات المستبدة الظالمة، والمستندة إلى عدم الرغبة في الدخول نحو معترك التغيير الحقيقي، بدأت هذه الحالة وازدهرت، حينما تعاظم شعور الفرد بافتقاد حقه في الوطن؛ حيث يتصرف المسؤولون ورموز السلطات وكأن البلاد والأوطان امتداد لذواتهم. فقد قاد هذا الواقع إلى الانسحاب التدريجي واللامبالاة وانهيار الثقة بكل شيء، ما جعل الاستباحة من الخارج ممكنة وأحيانا مرغوبة ومطلوبة.
شهدت المنطقة دورات تاريخية من الانزياح والاستباحة والتقهقر مقابل موجات من القوة والتقدم والازدهار، ويبدو أن الدورة التاريخية الأولى الممتدة منذ خمسة قرون ما تزال تعيد إنتاج نفسها، كان لدينا موعد مع تغيير قواعد العملية التاريخية في 2011 لكن بعد سنوات اكتشفنا أننا تأخرنا على الموعد، حينها اختطف كل شيء.
