تماثيل وملصقات ورموز

مالك العثامنة كل أدبيات الإصلاح السياسي وورشاته ولجانه وتشريعاته وكتائب الترويج لها لا معنى لها خارج الملفات المحفوظة بها إذا لم يكن هناك حاضن "شامل وجامع و مانع" يعمل على تطبيقها اسمه الدولة. مما يثير السؤال عن تداعيات التمثال الذي تم نصبه في مدينة الفحيص، فثار من ثار من منطلقات "إقصائية" ورد فعل سريع ومرعوب بإزالة التمثال ووضعه في المقبرة! وهو رد "مرعوب" أضاعت فيه الدولة الأردنية فرصة جديدة للحضور بكامل مؤسسيتها ووقف خطاب الكراهية بمعالجة حكيمة لكن حازمة، لا برد فعل سريع متنصل له تداعياته التي ستظل كامنة للمستقبل! التساؤلات في مسائل كتلك يجب ألا تتجاوز حدود القانون الذي يشمل الجميع بلا استثناء، وأول الأسئلة يكون عن تراخيص رسمية لنصب التماثيل أو تعليق الملصقات واليافطات واللوحات في أماكن عامة، أيا كان محتواها، وهذا تحدده الجهة التي تقوم بالترخيص وتتحمل مسؤوليته إن كانت هناك مخالفة لأي قوانين او تعليمات، وفي حال تمثال المسيح في مدينة الفحيص فقد فهمنا أن التراخيص كانت قانونية ضمن أسس توافق مجتمعي تمثله بلدية الفحيص نفسها. ما حدث في تداعيات تلك القضية لم يكن في حدود "القانون" وتجاوزه إلى خطاب كراهية لم تتحرك الدولة (التي تبحث عن ذاتها في الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري) أي خطوة نحو الأمام لفرض نفسها كمنظم قانوني للمجتمع، بل تصرفت مذعورة وبحذر خفي، ليكون رد الفعل بإزالة التمثال بسرعة، وهو ما أعطى مساحة تمدد إضافية ومريحة لخطاب إقصائي قائم على الكراهية تسلل عبر فضاء إلكتروني ليفرض سيطرته على الأرض ويقرر باسم الجميع ما يجوز ولا يجوز! في المحصلة، ملف الإعلانات والملصقات والرموز والتماثيل يعمه الفوضى في الأردن، والأصل أن هناك جهات رسمية تدير الفضاء العام على الأرض وتمنح التراخيص ضمن قوانين وتشريعات وبالضرورة هناك رسوم مالية على كل ذلك تسجل ضمن إيرادات الخزينة العامة. مثلا، وفي زياراتي الأخيرة للأردن، انتبهت لتفصيل بات عاديا، لكنه لافت بالنسبة لي، في الشوارع الرئيسة والفرعية، على أعمدة الإنارة أو إشارات المرور ولوحات التوجيه المروري لافتات معدنية مطبوعة تحمل أدعية وأذكارا إسلامية، أو "أسماء الله الحسنى" مفرودة على امتداد الشارع وبالاتجاهين، لا توقيع تحمله تلك اللافتات يكشف عن الجهة التي تتبناها، وحين تسأل البلديات فلا أحد يعرف شيئا عن ترخيصها (وهو متطلب أساسي وقانوني لأي لافتة في مكان عام)، اللافتات مصنوعة من معدن أو بلاستيك قوي بجودة طباعة عالية تتحمل تقلبات الفصول، وتم تركيبها بهدوء وثقة من قبل مجهولين لا يعرفهم أحد، هؤلاء المجهولون موارد بشرية لها كلفتها، تماما مثل تكلفة تلك اللافتات الصغيرة والكثيرة جدا والمنتشرة في كل المدن الأردنية والمطبوعة بعناية، منتشرة في الطرق الفرعية للمحافظات كما في الشوارع الرئيسة. لا أنتقد محتوى اللافتات، فهي في مجملها مواعظ دينية أخلاقية من الأدبيات الإسلامية، لكن ما يثيرني هو البحث عن جواب لسؤال يفرض نفسه: لماذا يتكلف أحدهم مبالغ مالية لطبع وتجهيز وتعليق تلك اللافتات ويبقى مجهولا أمام الجميع؟ حتى مؤسسات الدولة المعنية لا تعرفهم. كل ما ورد أعلاه، التقاطات بصرية لا يمكن إغفالها وأنت تخرج من اجتماعات في مكاتب أو صالونات نخب سياسية عديدة ومكثفة ومتخمة بالحديث عن "الإصلاح السياسي" في دولة دخلت مئويتها الثانية، وقد أنجزت مئويتها الأولى بجدارة دولة راهن الكثيرون في المائة عام الأولى على سقوطها، فسقط المراهنون كلهم وبقيت، وكان سر بقائها حضور الدولة بكامل أهليتها المؤسسية. المقال السابق للكاتب  أزمة “الصبة الخضرا”اضافة اعلان