لعل نظرية التعلم والتعليم التي يؤمن بها المعلم/ة أي معتقداته التربوية فيهما، واعياً لها أو غير واع، هي التي تقرر مصير المتعلم/ة. وحتى إلى عهد قريب كانت «نظرية الذكاء المحدود والثابت» عند الإنسان هي النظرية المهيمنة على التعليم في العالم وبخاصة في الغرب، وبصورة أخص في أميركا وفي البلدان التي تتعلم منها، وأنه يمكن قياس الذكاء كمياً، وبالتالي تصنيف المتعلمين والمتعلمات والبشر حسب نتائج هذا القياس.
وقد وجد المديرون والمديرات والمعلمون والمعلمات في المدارس بهذه النظرية وفيها الحل، وما أسهله: نقيس الذكاء بأسئلة مقننة يضعها خبراء في القياس، ونفحص بها الأطفال والناس فنعرف نسبة الذكاء عند كل منهم بتقسيم العمر العقلي على العمر الزمني مئوياً، وقد صدّق الناس بمرر الوقت ذلك واستسلموا له.
لكن تبين فيما بعد، أي في النصف الثاني من القرن العشرين أن هذه النظرية ليست فقط غير صحيحة، وإنما مدمّرة أيضاً، وأن فحوص الذكاء ليست سوى فحوص تحصيل، وأنه ليس بقدرة أحد قياس الذكاء لأن الذكاء ليس شيئاً يمكن قياسه كمياً.
لكنه وعلى الرغم من نتائج البحوث الجديدة وآلاف الكتب والمقالات العلمية (Articles) التي أثبتت عدم صحة نظرية الذكاء الثابت والمحدود مدى الحياة، إلا أن النظرية بقيت صامدة، وصارت تقليداً، لأنها صارت بزنساً يدر مئات الملايين من الدولارات سنوياً على المتعاملين بها وبخاصة إدارة (SAT) والشركات التي تدور في فلكها. هل من السهولة – مثلاً – تحويل قيادة السيارات في بريطانيا أو الهند من اليمين إلى الشمال، ومثله التخلّي عن هذه النظرية بعدما صارت تقليداً وأميركا ما تزال تعمل بها، أما الدليل القوي الآخر على هذا الاستسلام للنظرية فاستمرار إجراء الامتحانات المدرسية والعامة بروحها، واعتبار نسبة النجاح في امتحاناتها حاسمة أو قاطعة لا تناقش، لأنها تعبر عن مصداقية النظرية والتعليم، مع أن النتيجة البعيدة لذلك صارت سياسية أكثر منها تربوية.
إن نسبة النجاح في الامتحانات المدرسية العامة لا تعكس الحقيقة، لأن التعليم أو نتيجة التعليم تعكس أيضاً العوامل الاجتماعية والاقتصادية المسبقة للمتعلم/ة. فبتأثيرها أو أثرها يحصل أبناء وبنات «المنعمين» على أعلى العلامات في فحوص الذكاء، ومعظم «المعدمين» على أدناها. ويصل سعر بعض الدروس الخصوصية قبيل الامتحان العام إلى مائة دينار أو أكثر للحصة الواحدة. لا يقدر على دفع هذا المبلغ إلاّ الموسرون.
وبمعنى آخر أي حسب نظريات التعلّم الجديدة، فإن كل طفل/ة سوي/ة قادر/ة على تعلم أي شيء إذا تم تعليمه له بصورة صحيحة جنباً إلى جنب التغلب على المعوقات الاجتماعية والاقتصادية... القبلية، وأنه بالمثابرة يمكن تحقيق المستوى المطلوب ليس في التعليم فقط، بل في كل شيء، وأن الذكاء ينمو بالتعليم الجيد، وأن التعليم والتعلّم حسب نظرية التفاعل الاجتماعي في الأسرة وفي الصف والمدرسة والإدارة يجعل نظرية الذكاء المحدود والثابت لاغية. لكن هذه النظرية الجديدة نسبياً لم تنجح بعد في القضاء عليها. ما يزال الكثير من المدارس يوزع الأطفال والطلبة والناس حسب نسبة ذكاء كل منهم. لا تعكس نسبة النجاح في هذه النظرية مدى إطلاق التعليم للتعلّم عند كل متعلم/ة، وأنه إذا كانت نسبة النجاح في الامتحان العام ستين في المائة – مثلاً – فإن المدرسة أو نظام التعليم مدين للمتعلمين والمتعلمات بأربعين بالمائة. ولكنه للأسف لا يؤديها إليهم.
أما الدليل الحاسم على بطلان نظرية الذكاء الثابت والمحدود فالثورة في تعليم الحيوان وتعلمه التي أسقطت نظرية بافلوف في تعلم الحيوان فيما يسمى بالفعل المنعكس الشرطي. لقد صار الحيوان يتعلم كالإنسان بعدما تحول تعليمه من فعل شرطي منعكس إلى عملية (Process) تعليم وتعلّم، وبالمقدار والشكل والمستوى المطلوب الذي يرغب فيه معلّمه/معلمته أو مقتنيه.
ومن ذلك أننا صرنا نرى مدارس تفتح لتعليم الحيوان، وإن كلاباً – مثلاً – تتخرج فيها وهي متعلمة سلوكات ومهارات ومدركة لمعلومات كان يظن أنها مقصورة على الإنسان فقط، من مثل تعلم الكلب/ة الدخول إلى الحمام لقضاء الحاجة، ورفعه غطاء الكرسي، وجلوسه عليها وقضاء حاجته، ثم فتح الماء عليها وإغلاق الكرسي والخروج من الحمام فيما بعد. وكما ترون فإن هذا السلوك عملية وليس فعلاً شرطياً منعكساً. فما بالك بالدولفين وكثير من الحيوانات الأخرى؟ مما كان يعتبره البشر في الماضي مستحيلاً. معنى ذلك أن الحيوان صار يفكر ويتعلّم بالتعليم والتدريب.
يبدو أن الفرق بين مدرسة الحيوان ومدرسة البشر كبير، فالمعلمون والمعلمات في مدرسة الحيوان لا يؤمنون بنظرية الذكاء الثابت والمحدود حتى عند الحيوان، بينما ما يزال الكثير من المعلمين والمعلمات في مدرسة البشر يؤمنون بهذه النظرية عند الإنسان، ويتصرفون مع المتعلمين والمتعلمات بموجبها لأنهم يجدون بها راحة كبيرة، فالمسؤولية عن التعلم تقع على المتعلمين والمتعلمات لا على المعلمين والمعلمات، فلا يبذلون الجهد اللازم، أو الكافي لتجاوز هذه النظرية، بينما المعلمون والمعلمات في مدارس الحيوان يعطون الوقت اللازم للحيوان لتعليمه وتعلّمه السلوك المطلوب.
وأخيراً فإني أفرق بين النجاح والتنجيح الشائع في كثير من الجامعات والمدارس الخاصة، فأقول: عيب التباهي بصور الناجحين في الصحافة وعلى جدران المدرسة، دون ذكر نسبة النجاح فيها، فهي التي تعبر عن نظريتها في التعليم والتعلّم ومدى ما تبذله من جهد فيهما.
للمزيد من مقالت الكاتب انقر هنا